عليكم ألا تحكموا على الناس من الوهلة الأولى وتصنفوهم هذا غبي وهذا ذكي وذاك ماكر وهؤلاء فجرة، بل ينبغي عليكم أن تفهموا قبل ذلك كيف يفكر هؤلاء حتى لا تكونوا أغبى الناس.
دعوني أسوق لكم هذه القصة القصيرة ثم نحلل نتيجتها معا، ففي يوم من الأيام دخل طفل إلى محل الحلاقة، فهمس الحلاق في أذن الزبون قائلا له "انظر إلى هذا الطفل، هذا أغبى طفل في العالم، وسأثبت لك ذلك حالا، انتبه لي ماذا سأفعل به"، فوضع الحلاق في يده اليمنى دينارا وفي اليسرى ربع دينار، ثم طلب من الطفل أن يأخذ أحدهما بعدما أراه إياهما، فما كان من الطفل إلا أن أخذ ربع الدينار، ثم انصرف مسرعا من عند الحلاق.
فضحك الحلاق بصوت عالٍ ثم قال للزبون "إن هذا الطفل لا يتعلم أبدا، هكذا في كل مرة أخضعه لهذه اللعبة ويفشل فيها، في كل مرة يفعل هذا السلوك الغبي!".
بعد أن خرج الزبون من مكان الحلاق متفاجئا من سلوك ذاك الطفل وإذ به يشاهده في محل للبوظة، فاقترب منه ليسأله: لماذا اختار ربع الدينار؟ فأجابه الطفل -وقد علت وجهه ابتسامة ماكرة- قائلا "يا هذا، إنه في اليوم الذي أختار فيه الدينار وأترك ربع الدينار تكون اللعبة قد انتهى وقتها، ولن أرى بعد ذلك دينارا ولا ربع دينار، فهمت؟".
صُدم الرجل من درجة التفكير التي وصل لها هذا الطفل الماكر الذي ما فعل ذلك إلا من أجل أن يستمر ربع الدينار إلى مدى بعيد قدر المستطاع.
هذه القصة تسوقنا إلى مفاهيم عميقة ينبغي أن تكون ماثلة أمامنا في حياتنا العملية، وكما يقولون "من الكبار تعلمت الكثير، ومن الصغار تعلمت أكثر"، وعليك أن تتعلم قواعد اللعبة، ثم بعدها عليك أن تلعب أفضل من الباقين".
ما الحياة ليست سوى وعاء كبير، نضع فيها أغراضنا يوميا، نضع فيها معاملاتنا وسلوكنا وطريقة تفكيرنا وتصرفاتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وإن مراكمة كل ذلك تنتج عنه خبراتنا العملية، وهي حصيلة حياتنا وتجربتنا الدنيوية التي ذقناها على مدار الساعة وتجرعنا المر من أجل الوصول إلى تلك اللحظة التي نستطيع من خلالها التمييز بين الخير والشر وبين النافع والضار.
كثير من الناس يدّعون الانتساب إلى مدرسة الفطنة والذكاء الخارق، وأنهم وحدهم من نسل يختلف اختلافا كليا عن نسل البشر العاديين، فيتذاكون ويتذاكون، ثم تجدونهم يقعون في أول حفرة تواجههم، أو كما يقولون "يغرقون في شبر ماء".
ولو افترضنا جدلا أننا نريد إسقاط هذه النقطة على واقع كل واحد منا، فلربما مر علينا خلال سنوات حياتنا شخص ذكي ارتكب أخطاء حمقاء لا يقع فيها الأسوياء، وفي نفس الوقت تجده يسوق علينا المثالية يوميا من خلال المنشورات أو المقالات أو الخطابات أو الأحاجي أو المسائل الرياضية الخارقة أو غيرها من أنماط متعددة من الأمثلة فيما هو غارق إلى أخمص قدميه في الأخطاء الفادحة، لكنه -المسكين- يظن نفسه أفضل وأذكى من الآخرين.
وعلى النقيض، ربما تجد أشخاصا عاديين لا يدّعون المثالية ولا الفطنة ولا الذكاء، ولكنك تجد تصرفاتهم في قمة الحكمة والاتزان.
فلو علم أولئك عن هؤلاء لفهموا أن الحياة تحتاج منا إلى الكثير من البساطة والنزول عن الشجرة حتى نعيش سعداء مع من حولنا، بعيدا عن المرض النفسي الذي يعشش في عقول الكثيرين.
التواضع والتسامح وإن شئت فقل النزول عند تفكير الآخرين يساعد الإنسان في الوصول إلى درجة عالية من النضوج والنجاح المنشود، ويجعله قريبا دائما من الناس ومرتاح النفس والفؤاد وهادئ البال والتفكير، ولكن في الاتجاه الآخر يجعله دائم الحسابات ومشغول الذهن، بل ويجعله مريضا نفسيا من نوع خاص يفترض تصورات معينة في مخيلته ثم يبني عليها قرارات، فتعود عليه بالخسران والنكوص والفشل، مما يصيبه بالألم النفسي والذهني، ويخسر مقابل ذلك راحة البال وصفاء القلب وسلامة الصدر تجاه الناس والآخرين ممن يعيشون معه في مجتمعه، ويصبح ويمسي عليهم في الغداة والعودة.
لذلك أيها الإنسان، لا تعتبر نفسك خارقا وذكيا وتعتبر الآخرين هم الأغبياء، ولا تعد نفسك أسطورة والباقين هم العوام، ولا تعتبر نفسك استثنائيا منقطع الوصف والنظير والناس هم العاديون، بل ضع افتراضات أنك غبي والناس أذكياء، أو على الأقل أنك متساوٍ معهم في درجة ذكائهم وفطنتهم، حتى لا تقع فريسة سهلة لهم في يوم من الأيام، وحتى لا تصاب وقتها بالصدمة عندما تكتشف أنهم أفضل وأرقى وأفهم وأذكى منك، وأنك تحتاج إلى سنوات ضوئية حتى تصل إلى ما وصلوا إليه، كما في قصة الدينار وربع الدينار لصاحبنا الطفل مع الحلاق الذي ذكرناه في بداية المقال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.