شعار قسم مدونات

فصل قديم جديد..

صور للطلاب داخل المدارس- وزارة التربية والتعليم قدرت أن عدد المدارس بمصر عام 2020 وصل إلى 56569 مدرسة
جنود صغار متمايلون لا يعبؤون بالقادة الصغار ولا القائد الكبير (مواقع التواصل الاجتماعي)

اليوم هو اليوم الأول من الفصل الدراسي الجديد، كل شيء جديد، الروتين قد انكسر، الأيام الفارغة قد امتلأت، حقيبة المدرسة المركونة في رف الخزانة قد تم إحياؤها من جديد، كل الأحذية القديمة المغبرة أصبحت اليوم لامعة براقة، حتى الجوارب المغلفة بكيسها البلاستيكي التفت اليوم حول القدمين، مصروفنا المدرسي وحقنا اليومي قد رد إلينا، لطالما راودني هذا السؤال مذ كنت طالبة في المدرسة: لمَ تحجب أمي عنا المصروف في العطلة؟ ألسنا أنفسا وكل نفس تشتهي؟ فتأتيني الإجابة من آخر حجرة في رأسي: مؤونة البيت كافية، وإن لم تكفِ لسد شهواتنا الصغيرة ولكن القناعة كنز لا يفنى.

اليوم الأول ممل للغاية، رتيب وحزين وقاس على الجميع، المعلمون قبل الطلبة، فكل منهم ودع ظل بيته الدافئ وترك نار المدفأة، ليلتمس نار العلم الوهاجة.

الطرق ممتلئة حتى آخرها، أقدام السابلة تقرع الطريق وكأنها مظاهرة أطفال سلمية يخرجون كل صباح لتحقيق مطالب لا يعرفونها، الفقراء منهم حفظت أقدامهم الطريق الذي يذرعونه كل يوم ولسنوات، المترفون منهم وأبناء الدخل الجيد تحملهم السيارات الخاصة أو حافلات المدارس الخاصة، أكره حافلات المدارس الخاصة، لأنها تعطيني شعورا بأن هؤلاء الأطفال أطفال لأبوين بعيدين كلفوا مربيات وسائقين ينوبون عنهما لخدمة أطفالهم.

عند بوابة المدرسة الزرقاء أشعر بالاختناق والضيق وكأنها زنزانة معتمة تسرق الأنفاس، يقرع الجرس وتبدأ الجولة الأولى من العرض العسكري للمبتدئين، جنود صغار متمايلون لا يعبؤون بالقادة الصغار ولا القائد الكبير، يتناولون ما تبقى من فطورهم، يتبادلون أطراف الحديث بصوت شبه مسموع، مع أنهم على دراية بأن هذا خاطئ وممنوع، ولكن لا بأس اليوم، فاليوم هو الأول، ولأن العقوبات لم تتجدد على مسامعهم بعد.

القائد الكبير -وهو المدير طبعا- معتدل البنية وطويل، تبدو عليه مهابة الوزير بين طاقمه ومعلميه، يعتلي المنصة ويبدأ بالتعليمات ويسرد كل شيء موجود في عريضته ما بين واجبات وعقوبات.

إذن، هذا هو المقر الأخير لمسيرة الطلبة السلمية، وعلى علات وسيئات اليوم الأول إلا أنه جيد لعدم وقوفنا لسماع الإذاعة المدرسية، يبدأ السلام الوطني ثم أناشيد وطنية ترافقنا إلى الفصول، آه كم تمنيت لو تعزف مقطوعة موسيقية أخرى، أو تصدح فيروز من هذه السماعات الكبيرة ويجلس كل طالب وزميله على طاولات صغيرة يتبادلون أطراف الحديث مع قهوة عربية ساخنة، كم هو جميل! أستيقظ على ارتطام قدمي بالدرج القديم، وبحائط عليه رسومات قديمة لشخصيات كرتونية تمنيت لو كانت تاريخية عريقة.

يتوجه كل سجين لمهجعه، أوه أقصد كل طالب لفصله، المقاعد مغبرة يبدأ الجميع بمسح طاولاتهم وكراسيهم، أنظر حولي فأرى الجميع يتجاذبون أطراف الحديث لكن بدون قهوة وبدون فيروز، ادخروا كل ما دار وحدث معهم في الأسابيع القليلة بحجرة مغلفة داخل عقولهم ليتم الإفراج عنها اليوم، طبعا منها ما هو مختلق، والكثير منها كذب ومؤلف بخيال بسيط، والقليل منها ما هو صادق مع القليل من التنميق والتعديل.

أخيرا، تحضر المعلمة، وتعود زميلتي في المقعد لتحط بجواري بعدما هربت من سكوتي الطويل، تهنئنا ببداية الفصل الجديد، متمنية لنا فصلا ملؤه التقدم والنجاح بعدما أسمعتنا عريضة كاملة مذكرة فيها بأخطائنا في الفصل الماضي وبدرجاتنا الرائعة في الاختبارات النهائية، ثم تجلس على الكرسي مع سجلاتها المتنوعة ذات اللون الواحد، وقائمة بأسمائنا معلنة فيها عن المتفوقين في الصف والأوائل منهم.

تعود الطالبات لاستكمال حديثهن المنقطع، وأعود لقراءة روايتي، تلاحظني المعلمة، تدور حولي محاولة استراق النظر لاسم الرواية وتحاول جاهدة معرفة اسم الكاتب حتى لا تبدو كوعاء فارغ أمامي، نتبادل أطراف حديث لم أكن البادئة فيه، تعود مرة أخرى إلى كرسيها سارحة بخيالها، أراهن أنها تتذكر هذه الفترة من حياتها عندما كانت في مثل عمري، تتذكر كيف كانت تقضي أوقات فراغها مع أمها وخالاتها والأقارب وصديقات الحي، وأنها لم تحظَ برواية أو كتاب آخر لتقرأه غير الاستراحة في الجريدة التي كان يقرؤها والدها في الصباح وطوال الأسبوع، تعود بنظرها إلي وأراها بطرف خفي، ترقبني بنظرة تحمل الكثير، وبابتسامة خفيفة ترتسم على وجهها.

أسمع رنين الجرس وأبقى قابعة في مكاني، أنظر فلا أجد أحدا داخل الفصل كأنهم فراش منتشر، ولكن في بقعة معينة هناك كنز وقع عليه الجميع وهو مقصف المدرسة، مؤونة المواد الغذائية، أنظر إليهم كيف يتناولون طعامهم، إما بنهم شديد أو فتور، لأنه بالنسبة للفئة الثانية تقليد رتيب، يدق الجرس مرة أخرى ولكن بسرعة أكبر، يصطف الطابور من جديد، لا وجوه ناعسة ولكن شبه مستيقظة.

المدير المولع بالميكرفون يلقي كلمته، أناشيد متشابهة مختلفة تصاحبنا للفصول، الدرج ذاته والحائط أيضا، يعود الجميع لمسح المقاعد لأنه اليوم الأول، أجلس ولا شيء جديد، أستكمل قراءة الرواية ولكن بعمق أقل، لأن الأصوات الخافتة تصل إلى مسمعي، أرى متلصصة تجلس بجواري، إنها الفتاة المنبوذة في الصف، ليست محبوبة أبدا تسألني عن الحال فأرد بحماس مصطنع مع ابتسامة مقتضبة، يتبعه سكوت مميت، أرقبها بحذر وأتصنع القراءة بالرواية، تتركني لتدخل في حلقة نسائية مصغرة، تحاول الحديث وجذب الانتباه، أبتسم بداخلي، لأن الوحدة أفضل بكثير من طيف عابر على الناس وثقيل، تقف المعلمة لتصفنا بطابور طويل متشابكي الأيدي كرفقاء النيل، أسند جسدي على الحائط متجنبة يد زميلتي في المقعد والطابور، ما إن نصل لنهاية الدرج حتى تنحل المسبحة وتتناثر حباتها، كل إلى بيته وكأنهم يهربون من معتقل كبير، نظرات المديرة ساخطة، تهدر الحافلات والسيارات معيدة كل طالب إلى بيته، ليرتاح من عناء يوم طويل بالجلوس، معانقين وسائدهم استعدادا لنوم عميق طويل وليوم جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.