شعار قسم مدونات

عشاق المتنبي المجانين.. أيمن العتوم نموذجا

blogs - المتنبي
عندما نتحدث عن اللغة العربية، لا بد من ذكر أبي الطيب المتنبي، أحد ساداتها العظام إن لم يكن سيدهم (مواقع التواصل الاجتماعي)

لا شكّ أن المتنبي واحد من أعظم الشعراء العرب إن لم يكن أعظمهم، بل أعتقد أنه من كبار شعراء العالم عبر كل العصور، ولا شك أن من يتبوأ هذه المكانة ويعتلي صدارة الكلمة يكون له محبون ومعجبون بشعره تزداد أعدادهم يوما بعد يوم، ذلك أن شعره حي باقٍ تتغنى به الأجيال ويستمتع به الناس حتى يومنا هذا.

وتنبع محبتنا لأفذاذ الشعراء كالمتنبي من محبتنا للغة العربية، تلك اللغة التي تسكننا وتجري مجرى الدم في أجسادنا، نسافر مع حروفها إلى عالم من السحر والجمال، ونطرب لروعة مفرداتها كما نطرب لمقطوعة موسيقية متقنة، ونشكل من كلماتها صورا تجعل المستمع يعيش بداخلها كأنه جزء منها، فهي كنز عظيم لا تضاهيها كل لغات العالم، وهي لغة القرآن الكريم أصل البلاغة ومصدر الإعجاز اللغوي ومنبع الكلم الطيب، وعندما نتحدث عن اللغة العربية لا بد من ذكر أبي الطيب المتنبي؛ أحد ساداتها العظام إن لم يكن سيدهم، مروّض الحروف ومطوّع الكلمات، ذلك الشاعر الذي أحب العربية وأحبته حتى بات يتحفنا بأجمل ما فيها، ليترك لنا بعد كل هذه السنين إرثا عظيما من الشعر نقف أمام كل بيت فيه وقفة إعجاب ما تلبث أن تتلاشى عند قراءة البيت الذي يليه لأن فيه من الجمال والروعة ما هو أكبر من سابقه.

وأنا هنا لست بصدد الحديث عن المتنبي كشاعر وفارس وحكيم، ولست هنا لشرح أبياته وذكر تاريخه، لكنني هنا أتحدث عن عشاق المتنبي وأحبائه وهم كثر، فمن عاصروه أحبوه وأعجبوا بفنون شعره وبلاغته، حتى الأعداء منهم -وهم كثر أيضا- وإن كانوا يحاربونه ويكيدون له المكائد إلا أنهم لم ينكروا إعجابهم بقوته الشعرية التي لم تضاهيها قوة شعرية لأحد. وعلى مر العصور ترجم للمتنبي الكثير من الأدباء والشعراء، منهم من دفعه لذلك علمه ودراسته، ومنهم من دفعه شغفه بالشعر واللغة، لكن قلائل من دفعهم عشق المتنبي حد الجنون لترجمته وشرح شعره وكلماته، وفي الآونة الأخير تابعت حلقات متسلسلة للروائي والشاعر أيمن العتوم بعنوان كرسي المتنبي، وأعترف أن متابعتي لتلك الحلقات هي ما دفعتني لكتابة هذه السطور.

بعد أن تحدث الدكتور العتوم في عدة حلقات عن سيرة المتنبي وتاريخه من مولده حتى وفاته؛ بدأ بشرح ديوان شعره من أول قصيدة، معتمدا على الترتيب الهجائي لحرف الروية في القصيدة، وهو آخر حرف في البيت، مبتدئا بالهمزة ثم الباء وهكذا، وبدأت أسافر مع العتوم في عالم المتنبي بطريقة جديدة ومختلفة تجعلك كمشاهد ومستمع تتسمر أمام الشاشة من روعة الشارح والمشروح، وأكثر ما لفت انتباهي في تلك الحلقات هو مقدار الحب الذي يحمله الرجل للمتنبي، فهو لا يتحدث عنه كشاعر، بل تراه أحيانا يتحدث عنه كصديق عاش معه في حياته ورافقه في حلّه وترحاله، أو كأخ له من بطن واحدة عاشا معا الطفولة والشباب، أو كقدوة له ومعلم تتلمذ على يديه في اللغة والأدب والشعر، أو كحارس أمين للمتنبي يرى من واجبه حفظ إرثه العظيم ونقله للأجيال القادمة، وقد أبدع في ذلك.

لم يكن الدكتور أيمن العتوم الوحيد الذي تحدث عن المتنبي، لكنه من وجهة نظري الوحيد الذي تحدث عنه بكل هذا العشق والحب، تراه إن ذكر محاسن المتنبي ابتسم وافتخر بمعشوقه، وتراه إن تطرق إلى معاناة المتنبي في حياته حزن وأسِف حتى تكاد الدمعة تنهمر من عينيه، وتراه إن جاء على ذكر أعداء المتنبي وأقوالهم فيه غضب وانتفض للدفاع عنه بشراسة، وتراه إن قرأ بيتا من شعره فيه من البلاغة والحكمة الكثير لمعت عيناه واعتدل في جلسته كأنه يستعد للإبحار في عالم الابداع والجمال، ليبدأ بعدها شرح الكلمات والصور الشعرية بعشق كأنه يصف محبوبته الجميلة، وترى الإعجاب والانبهار على محياه كأنه يقرأ البيت لأول مرة، مع أنني على يقين أنه يحفظه عن ظهر قلب وقد قرأه قبل ذلك مئات بل آلاف المرات، لكنه لا يستطيع أن يخفي شعوره في تلك اللحظة ولا يقوى على تغيير تعابير وجهه التي تعكس ما بداخله من حب.

حلقة بعد حلقة والعشق هو العشق، وقصيدة من بعدها قصيدة والجنون هو الجنون، لا بل ويزيد، وهذا سر نجاح العتوم وتألقه في شرح ديوان المتنبي من على كرسيه، وهذا ما يميزه من وجهة نظري عن باقي النقاد والأدباء الذين ترجموا للمتنبي، فهو لا يترك صغيرة ولا كبيرة في القصيدة إلا وقف عندها، ولا يغادرها إلا عندما يشعر أنه قد أوفاها حقها كاملا، وكان له رؤيته في مقاصد المتنبي الواضحة والمخفية في أشعاره، فتراه أحيانا يوافق غيره وتراه أحيانا أخرى يخالفهم لينفرد برؤية مختلفة لعله استنبطها من قلبه المحب الكبير لشاعره العظيم، والحق يقال، إنه وإن كان منحازا في عشقه إلا أنه عادل في شرحه، يوضح أسباب ذكر المتنبي لتلك المفردة هنا أو هناك، ويربط الشطر أو البيت بأبيات أخرى للمتنبي أو غيره تؤكد ما يقول، وكل هذا يجعل المتابع يفهم مغزى البيت والقصيدة، ويسترسل العتوم في ذلك ولولا وقت الحلقة لتراه يجلس ساعات وربما أيام وهو يتألق في شرحه دون كلل أو ملل لأنه يحب ما يقوم به، ولأن العمل مبني على عشق وهيام ونابع من القلب والروح.

لقد أبدع الدكتور أيمن العتوم في كرسي المتنبي وأوفى الرجل حقه، وكان التلميذ الوفي لأستاذه وإن لم يعاصره، وكان الأمين على تاريخ المتنبي كما يجب وأكثر، حتى إنني أتخيل المتنبي يجلس في شرفة منزله في بغداد يتابع شرح أيمن العتوم في "كرسي المتنبي" ليرى روعة ما خطت يداه، بطريقة مختلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.