كُتبت كلمات كثيرة في قيمة القراءة، واقتبس عشاق الكتب العديد من تلك الكلمات ليزينوا بها صفحاتهم الشخصية على "فيس بوك" و"تويتر"، فيعرف الجميع أن صاحب تلك الصفحة مثقف وقارئ جيد، ولو حتى قام باجتزاء تلك الاقتباسات من مقطعها الأصلي فحُرف معناها؛ فلا يهم، فمن ذا الذي سيبحث عن الاختلاف؟!
ولمّا كان من المهم الحديث عن القراءة، بمناسبة معرض القاهرة الدولي للكتاب، لا بد أن نتحدث عن الكتّاب وعن إبداعاتهم المُترعة التي تُذهلنا بين الحين والآخر، فأحسب أن "خليل جبران" لو بُعث إلينا من جديد ورأى مثل تلك الإبداعات، لقال واروني في التراب مجددا، فالقبر خير لي مما أرى.
الكتّاب واللغة
في تلك النقطة أضربُ مثلا، مجرد مثل، ولا أُشير بأصابع الاتهام إلى أحد بعينه، وإنما كلامي في العموم. قديما قال الرافعي "وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلَّ"([1])، وهذا تفسير يسير لما يعيشه العرب اليوم، فانظر إلى أدبيات عديدة في المكتبات ومعرض الكتاب، بل وانظر إلى المُرشح منها لنيل الجوائز كـ"البوكر" مثلا، سيُذهلك أن تقرأ في سطورها الآتي "لم يمضِ سوى دقائق إلا وأتت الحافلة وصعدت بها"، لا أعرف كيف له أن يُضيف الباء على الضمير "ها" بدلا من حرف الجر "في"، فالأصوب "فيها" وليس "بها".
فهل كان ذلك الخطأ مقصودا أم أنه "جلّ من لا يسهو"؟، والمشكلة ليست هنا، بل المشكلة الحقيقية هي حين نقول لهؤلاء إن الأصوب والأصح كذا، وكذا. فيرد الواحد منهم -في غضب وضيق- "لا"، وما شأنكم أنتم. بل وترى بعضهم يرموننا بالجنون والمرض النفسي، أكلّ ذلك لأننا صوبنا لهم أخطاءهم الإملائية؟!
أين المشكلة في أن نصوب للآخرين أخطاءهم اللغوية؟ أليست هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم؟ فكيف لي أن أصمت حيال التقصير الواضح من أحد هؤلاء الكتّاب؟
ليس هذا فحسب، بل لو ناقشت أحد البوهيميين العبثيين من هؤلاء، لقال -مفتخرا بذاته- "أنا لا أهتم إلا بالمعنى، ولا أحب أن أظهر في هيئة النخبوي الفذ الذي يحيا بعيدا عن الناس في كهف بمفرده، أنا صاحب أسلوب ومدرسة جديدة. مدرسة تثور على كل ما هو موروث تقليدي يُقيد الإبداع الذاتي". وهذا الكلام صرت أسمعه في الآونة الأخيرة بين الكُتاب الجدد أكثر من سماعي جملة "صباح الخير"، فكل مَن جهل قواعد الصرف والنحو تعلل بذلك الكلام واتخذ لنفسه عذرا مسميا إياه "مدرسة جديدة". فهو فقط يُكابر ويرفض الاعتراف بضعفه اللغوي، ومَن قال له إن اللغة قاصرة على أهل النخبة من المُتباهين بلغويتهم؟ ألم يسمع قط باسم "أحمد خالد توفيق"؟ فليس على المرء -ليكون كاتبا- أن يكتب مثلما كان يكتب "العقاد" و"الرافعي" و"المنفلوطي" -إن كان يعرف من هؤلاء حتى- ولكن ليكتب وفق قواعد وشروط اللغة.
وهناك فرق شاسع بين القواعد والقيود، فحين تثور، فأنت تثور لتحطم القيود وفقا للقواعد المرهونة، فمن رحِم القواعد تنبع الثورة، أما إن ثرت على القواعد، لاستحالت ثورتك إلى فوضى عارمة، والفوضى تعني -ببساطة- الخراب.
فأين المشكلة في أن تسأل من هو أعلم وأرفع منك شأنا في اللغة؟ عليك أن تأخذ موضع التلميذ من الأستاذ في مثل تلك الأمور، وإياك أن تستحي من السؤال، فكبار اللغويين أمثال "طه حسين" كانوا يدخلون في مناوشات حول إعراب جملة معينة، أو حتى كلمة واحدة، ولكن لم يحدث قط أن قلل أحدهم من مشورة وتعليق الآخر. فهل أنت أعلم من طه حسين؟
كارثة العامية
وقد خرج إلينا -من حيث لا نعلم- أصحاب العامية والدارجة، وصاروا -كما يسمون أنفسهم- أصحاب مدرسة جديدة، وبالطبع كأي مدرسة جديدة، لا بد أن تكون ذات طابع ثوري، ولكن بنظرة سريعة على كتابات هؤلاء -لن نسميهم- سترى أنهم لا يعانون ضعفا في اللغة العربية الفصحى فحسب، بل وسترى أخطاء لا حصر لها في لهجتهم العامية، فعلام يمسكون القلم؟ ولمن يكتبون كل تلك الأخطاء؟ وبالنظر إلى أصحاب تلك الكتابات نجدهم أصحاب "فلورز" عدد متابعين، فنسبة المتابعين لأحد هؤلاء قد تربو على النصف مليون متابع، فإذن لمَ لا يغدو كاتبا؟!
دور النشر والمبدعون
وأما عن دور النشر، فهناك العديد من القصص والقضايا التي صادفتها تحارب المبدعين، ولكن أولا، علينا أن نرى رأي الفيلسوف "فريدريك نيتشه" في كتابه "شوبنهاور مُربيا"، حين أشار إلى أن دور النشر بأوروبا وقتذاك -في ظل العنفوان الأول للرأسمالية- كانت تسعى للربح فقط، أي أنها لا تسعى لتربية مواطن مثقف وإنما مواطن مستهلك، ساعية لغرس مبادئ السوق فيه، ليصير مجرد متسوق وسط الكتب.
ألا يشبه ذلك ما نمر به اليوم في أوطاننا العربية؟ فهل تسعى دور النشر العربية لإثراء المحتوى العربي أم لبيع السلع وفقا لمبدأ الاستهلاك والمنافسة فيما بينها؟ ولو كانت الإجابة "لا"، فأرجو من دور النشر الإجابة عن الأسئلة الآتية بعد التأمل فيها جيدا:
- هل تسعون لتثقيف الشباب العربي، أم للربح؟ وإن كنتم تسعون لتثقيف الشباب العربي؛ فلماذا يحتل أدب الرواية القسم الأغلب في معروضاتكم دونا عن باقي الألوان الأخرى كالشعر والكتب العلمية والبحثية؟
- ما الشروط التي على أساسها يتم قبول العمل أو رفضه؟ وهل استوفت جميع إصداراتكم تلك الشروط أو لا؟ فلماذا نرى أن أغلب الروايات والكتابات الصادرة حديثا مليئة بالأخطاء اللغوية والعلمية وخالية من أي إبداع أدبي يذكر؟
- هل يشترط على الكاتب أن يكون شهيرا لتقبلوا إسهاماته؟ إذن، فلماذا أغلب الكتّاب الجدد من المشاهير و"الإنفلونسر" العرب؟
- إذا تقدم لكم شاب بكتاب عن القضية الفلسطينية من 20 ألف كلمة، فيه شرح كافٍ ووافٍ للقضية، لكنه كاتب مغمور، هل ستقومون بدعمه ونشر كتابه؟ أم أنكم ستستبدلون به أحد هؤلاء "الإنفلونسر" الذي يريد أن ينشر رواية أو كتابا من 60 ألف كلمة عن قصة كفاحه ونجاحه؟
الحل
لا أعلم، إن كان ذلك الحل الذي سوف أعرضه عقلانيا أم لا، ولكن ليس باليد حيلة، فلو كان الأمر بيدي لقمت بذلك، فأنا أرى أن على وزارة الثقافة ودور النشر في أوطاننا العربية وضع امتحان تحريري للكتّاب والمؤلفين الجدد، لنتأكد إن كان هؤلاء يجيدون الكتابة أم لا، لا سيما الكتابة بلغتنا الأم الفُصحى، فإن قال أحدهم لا أقدر على الإبداع سوى بالعامية، سنقول أخطأت، بل إنك عاجز عن الإبداع أساسا. فإبداع الكاتب غير قاصر على لغة بعينها، فإبداعه أساسه الورقة والقلم، وبالتالي، إن كان يستطيع القراءة والكتابة، يستطيع الإبداع بالفُصحى، وإما فلا. ولو قامت دور النشر بذلك الأمر، فسنجد أن ثلثي معروضات معرض الكتاب بكتابها قد اختفت عن بكرة أبيها.
وأخيرا، قد تظن أننا نبالغ في عرضنا للأمر، نحن لا نبالغ، وإنما نهوّل ونروّع منه. نعم، إنها مشكلة وعي، بل كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالوعي هو الأساس الذي يندرج تحته كل المسميات الأخرى، فإن لم نسعَ لحل تلك الأزمة، فأهلا برقدة العدم.
____________
[1] الاستقلال، مصطفى صادق الرافعي، مجلة الرسالة، العدد 145، ص 2.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.