بيْن مجمل ما يقف عليه المتلقي من الشذرات المعرفية المختلفة، هناك مقتطفات تشكل الاستثناء وتبدو نسيجة وحدها والأكثر قدرة على جلب التفاعل والتوقف إزاء ما يتعلق بها، ولأن الأمر كذلك، فإن هذين البيتين يبدوان جالبيَن للاستحسان والاستجادة في غالب الظن لمن يطلع عليهما في غمرة سيل ما يوافي من نصوص الأدب، والبيتان هما وصف عدي بين الرقاع ( 95 هـ / 714 م) لغبار تذْروه سنابك لثنائي يطوي القفار في رحلة رصدها بتعبيره:
يتعاوران من الغبار مُلاءة .. بيضاء مُخْملة هما نسجاها
تُطوى إذا علَوا مكانا جاسيا .. وإذا السنابك أسفلت نشراها
لمّا طاف بي طائف الإعجاب بالبيتين وأنا أطالعهما في سياق معجمي، تأنقتْ أمامي مكانة عدي بن الرقاع بين الشعراء ثم لم ألبث أن عاينت ما كان من قديمِ الاستحسان للبيتين عند الأولين والذي يفضي إليه قول عبد القادر البغدادي عن مضمونهما "وهَذَا أحسن مَا قيل فِي وصف الْغُبَار والعجاج"، وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في وصف كثرة ظعنه وقصده الملوك:
يثير عجاجة في كل يوم .. يهيم بها عدي بن الرقاع
حسَناً.. أقطع سياق البيتين لأبقى في فلك عدي الذي وقَّع حضوره الأشهر عند متلقي نصوصه بذلك البيت السيار:
تزجي أغن كأن إبرة روقه .. قلم أصاب من الدواة مدادها
حيث قاله في صفة بدايات بزوغ "قرن الرشا، وهو ولد الظبي" وكان تم توثيق التفاعل حول البيت من أول ما أعلنه عديّ إذ يقول الصولي في أدب الكاتب "ويروى أن جريراً قال -وكان حاضراً- لعدي وهو ينشد هذه القصيدة، لما أنشد صدر البيت "تزجي أغن كأن إبرة روقه" رحمته وقلت هلك، فلما قال "قلم أصاب من الدواة مدادها " حالت الرحمة حسداً".
ويعود بي الأمر إلى ما قبل هذه اللحظة، إلى حيث كانت تفاصيل جلسة ذات ليلة من ليالي بنغازي بليبيا عام 2014 وقد كانت المدينة مأزومة ساعتها للغاية والصراع ما بين كتائب الثورة والمنضوين في ركب حفتر على أشده، فقد كان الأخير يقود مجنديه لأجل دخول بنغازي وإسقاط المدينة لتكون بقضبته وكان مقاتلو الثورة من أبناء المدينة يتصدون ببسالة وتفان، ووصل الأمر لحد أن تعطلت الحياة العامة في المدينة وغدا القصف الجوي من أبرز لوازم الأوقات فيها حيث تنام المدينة وتصحو على وقعه، ما أنسى حين سقطت منارة المسجد المجاور للسكن بسبب سقوط قذيفة هاون، أما لعلعة الرصاص وأصوات الأسلحة المنتظمة وتواصل القصف فكان مما درجت عليه الآذان وربما ارتج بسببه أحيانا مبنى الفيلا بحيّ الليثي حيث نقيم، كان الأمر على مثل هذا النحو وقد تم توثيق بعض تلك اللقطات بصياغة لا ترقى إلى سلم بيتي عدي ولكنها كانت ترمي إلى وصف حالة ولحظة:
بَمْ .. بـمْ .. وتنهض واقفا .. فترى صديقك واجفا
متوجّسين فقربنا .. الصاروخ دمدم قاصفا، أكتفي بهذا القدر عن تلك الحقبة من الحرب ببنغازي لأعود إلى حيث بيتي ابن الرِّقاع فما علاقتهما بتلك الليلة التي كانت فيها المدينة مأزومة إلى هذا الحد، تلك الليلة سرَد لنا محدثنا الراوي للأدب العربي ومنتخبات نصوصه في المحاظر الموريتانية، قصة أدبية تضمنت بعضا من عيون القصائد والنصوص حسب الأغراض الشعرية حيث كان قد تم إلقاؤها وفق الرواية التاريخية على أحد الحكام القدامى في سمر بغية الوصول إلى النص الذي سيحرز إعجابه، وهو ما قد ظل متعذرا فأدى إلى حكاية تلك العينات المتعددة، وكانت من ضمنها قصيدة عدي بن الرقاع التي جاء بها البيت:
تزجي أغن كأن إبرة روقه .. قلم أصاب من الدواة مدادها
فتم التوقف مع حكاية البيت أثناء سياق ذلك السرد الذي كانت تمضي فقراته ونحن في ظلام مطبق نتيجة انقطاع الكهرباء تحت تكاثف الغارات الجوية، تلكم هي القصة المشار إليها.
ولعل مما يبدر تبينه أن عدي بن الرقاع من ذوي منهج الصياغات السائرة ومنها بيته:
وَالْقَوْم أشباه وَبَين حلومهم .. بون كَذَاك تفاضل الْأَشْيَاء
وله قوله:
ولقد أصبت من المعيشة لذّة .. ولقيت من شظف الخطوب شدادها
وعَمِرْتُ حتّى لست أسأل عالما .. عن حرف واحدة لكى أزدادها
صلّى المليك على امرئ ودّعته .. وأتمّ نعمته عليه وزادها
قال ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء معلقا على الشطر الأخير "ومنه أخذ الكتّاب "وأتمّ نعمته عليك وزاد فيها عندك".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.