شعار قسم مدونات

طالبان ونظام الحكم القادم..

لسنا بصدد مهاجمة الحركة أو الدفاع عنها بقدر ما نحاول رصد سلوكها واستقراء مستقبلها. (الجزيرة)

" من غرائب حياتنا الثقافية أننا نضطر في أحيان كثيرة إلى أن نسوق الحجج ونحشد الحيثيات دفاعا عن حقنا البسيط والمتواضع في مجرد أن نفهم. من تلك الغرائب أيضا أننا لا نفرق في أغلب الأحوال بين الفهم والتسويغ، بحيث يصعب على البعض فكرة أن تتفهم موقفا في حين تظل متحفظا إزاءه أو معارضا له. ذلك أن المعادلة الشائعة في أوساطنا الثقافية -والسياسية أيضا- هي: إما أن تكون مع الشيء، أو تكون ضده، بحيث إذا لم تكن مخاصما لطالبان ولاعنًا لهم -مثلا- فسوف تُصنف نصيرًا لهم ومدافعًا عنهم."

كلنا نتابع آراء الخبراء والمحللين عبر شاشات التلفاز، وآراء الأصدقاء والزملاء عبر صفحاتنا في وسائل التواصل وحجم الجدل المُثار والانقسام الحاد بين من يذهب إلى حد التغزل بطالبان والدعوة للاقتداء بنموذجها، وآخر يصفها بالتخلف والسير بالبلاد إلى الهاوية.

في ظل توجه أنظار العالم كله تجاه أفغانستان، لم أكن استثناء من هذا العالم، وبزعمي أني شخص يراقب الأحداث ويحاول أن يستنبط منها الدروس والعبر، كان أول شيء خطر في بالي كتابين طالعتهما فيما مضى، أولهما كتاب "طالبان: جند الله في المعركة الغلط" للدكتور فهمي هويدي الذي اخترت منه مقدمة ما سأكتب فيما يلي، وبالتحديد من الصفحة رقم 24، وللمفارقة صدر الكتاب في 2001 عام سقوط حكم طالبان.

تلك المقدمة قد تكون دعوة للإنصاف والنظر للأمر بحياد وعين البصيرة الباحثة عن الاستفادة من تجارب الآخرين. لن يؤثر الحدث الأفغاني في العالم العربي بالشكل المباشر بقدر ما أحدث انقساما على الصعيد الفكري والحديث عن شريعة السياسة والسياسة الشرعية.

شدد مؤلف الكتاب السابق الذكر على نقطة غاية في الأهمية وهي أن الحركة آنذاك لم تكن ساعية للسلطة بقدر ما كانت تمردا على واقع مزرٍ وانتشار لمجموعات مسلحة تشكلت في أثناء قتال السوفيات، فقد كانت محاولة للإصلاح الاجتماعي من منطلق ديني وواجب شرعي، بل تفاجأت حين وصلت للسلطة الأمر الذي انعكس على عدم استعدادها لمثل هذه المهمة، فلم يكن لديها نظام سياسي مُعد مسبقا، ولا هيكلة محددة للحكم فضلا عن عدم توفر الكوادر المؤهلة للوزرات ومختلف أجهزة الدولة الناشئة، أما الذي جرى قبل أيام فكان على النقيض تماما؛ إذ سعت الحركة للسلطة وقاتلت في سبيل ذلك عقدين كاملين ونجحت فيما سعت إليه.

لسنا بصدد مهاجمة الحركة أو الدفاع عنها بقدر ما نحاول رصد سلوكها، واستقراء مستقبلها لانعكاسه وتأثيره الشديدين -كما نظن- على كل التجربة الإسلامية في الحكم وخاصة من المتشددين منهم الساعين للسلطة بقوة السلاح والفكر السياسي الإسلامي عموما.

حرصت الحركة على تلك السلوكيات بشدة لما فيها من رسائل ودلالات، فقد أصدرت عفوا عاما عمّن كان في أدبياتها مرتدا مواليا للمحتل الكافر، كذلك منذ لحظات دخولها الأولى للقصر الجمهوري في العاصمة، لم تمزق راية النظام السابق بل قام مقاتلوها بإزالتها وطيها بشيء من التقدير، على عكس ما جرت عادة طرفي أي قتال تجاه راية الطرف المقابل. أما السلوك البالغ الأهمية فهو حين جلس المقاتل وراء مكتب فاره لتلاوة آيات كريمات واضعا سلاحه جانبا بخلاف رفاقه، فالسلاح لا يُحمل في أثناء العبادة إلا في صلاة الخوف، ربما أرادوا القول إنهم لم يعودوا خائفين، بل انتصروا، وعزز ذلك تلاوة سورة النصر في دلالة لا تخفى على أحد، أو أرادوا القول إنهم كفوا السلاح جانبا ومدوا أيديهم للفرقاء الآخرين. بثت الحركة كذلك صوراً لمقاتليها من بيت أحد خصومها التقليدين الأقوياء (الجنرال الأفغاني المتحدر من العرقية الأوزبكية عبد الرشيد دوستم) وهم يفترشون الأرض ويأكلون ما تيسر من طعام قليل ولم يُنهب البيت ولم يُخرّب.

يُشهد لها أيضا بأن تنظيمها مترابط -على مستوى العناصر بل على مستوى القيادات العليا المتنافسة ربما- والعناصر ملتزمون بما يؤمرون، أولئك العناصر الذين لم يُستبدل زيهم ذو الدلالة على أن مرتديه طالب علم شرعي، وبالوقت ذاته هو الزي الشعبي بالبلاد، فلم يستبدل بزي عسكري موحد توضع عليه شارات تدل على رتبة معينة لهذا أو ذاك، فلربما قصدت الحركة من ذلك أنه لا تعنيها المظاهر وظلوا يرتدون زيهم المعهود وزي أبناء بلدهم ولم يستبدلوه حين وصلوا للسلطة بخلاف الجيش الأفغاني -الذي شُكل عقب احتلال الولايات المتحدة للبلاد- وشاهد العالم جبالا من تلك البزات العسكرية التي تركها مرتدوها وراء ظهورهم قبل فرارهم .

لكن طالبان -بالمقابل- سلكت العديد من السلوكيات التي ربما ترضي متشدديها أو أنها لم تتغير كثيرا كما يظن البعض. فمصادرة العلم من المحتفلين بيوم الاستقلال، نقرؤها من زاوية أخرى فقد تكون ما زالت تنظر لمسألة الراية حالها حال أشقائها من التنظيمات المتشددة ضيقة الأفق، التي تنظر للعَلم كونها ثابتًا من الثوابت التي لا يُفاوض عليها ولا يُتنازل عنها.

كذلك لم تُعلق على إخفاق رياضيّة أفغانية في أولمبياد طوكيو بسبب ظروف البلاد، مما يدل على أن مشاركة المرأة كما يرددون الآن ستكون محدودة ولن تختلف كثيرا عن نظرتها السابقة.

لن نستطرد أكثر في استعراض السلوكيات وادعاء شيء ثم فعل نقيضه.

ستظل أفغانستان حديث العالم كله لفترة ستنتهي عقب عمليات إجلاء الأجانب وانتهاء مشاورات طالبان مع القوى والشخصيات الأفغانية الأخرى وإعلان حكومتها -التي منها سنعرف نظام الحكم الذي تزمع تطبيقه في البلاد- فحتى كتابة هذه السطور لا تزال الحركة تردد كلاما حمّال أوجه من نظام إسلامي مرجعيته الشريعة.. ومجلس حكم يرأسه أمير مؤمنين.. وستشارك المرأة في الإدارة القادمة.. وغيرها من العبارات التي لا نزال نجتهد في تفسيرها.

كذلك ستكثر التحليلات بشأن المنافسة الروسية والصينية للولايات المتحدة وربما الاعتراف بالنظام الجديد، وبشأن قلق الصين على مشروعها الهام -طريق الحرير- في ظل تحدث تقارير عن 400 كلم من ذاك الطريق تمر في أفغانستان، وبشأن الموقف الإيراني من النظام الجديد في البلد الجار، والغموض حول الإدارة التركية لمطار كابل ورفض طالبان لذلك ثم الحديث عن احتمال موافقتها.

سيظل ذلك البلد الذي لم يعرف لا الاستقرار ولا التنمية لعقود خلت -كما أسلفنا- مادة دسمة للمتابعين والمهتمين والباحثين. وربما الجدل الفكري لا يقل أهمية عن الحسابات السياسية المعقدة والتوازنات وتسابق الدول لتكون فاعلة وتجد لنفسها موطئ قدم.

لم تصل الحركة لما هو مطلوب منها، لكننا نعتقد أن ما فعلته طالبان من سلوكيات -استعرضنا بعضها- احتاج من الحركة الكثير من الجدال داخل أروقتها وبين منظريها، وكلنا يعلم تمسك الحركة باستناد كل فعل تفعله إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الإسلامية، وإن فسرتها بما يخدم ما تنوي أن تفعل، وليست حادثة تماثيل بوذا في باميان بغائبة عن أذهاننا.

لكن الحدث الذي سيكون الأبرز في قادم الأيام -حسب اعتقادنا- هو شكل النظام الجديد الذي تزمع طالبان حكم البلاد عبره، فمؤسسوها قُتل أغلبهم خلال العقدين الماضيين بمن فيهم أول أمير مؤمنين للحركة، القادة اليوم شباب بعقلية متفتحة مقارنة بالقادة المؤسسين، حيث يفاوضون ويلتقون السفراء وممثلي المنظمات الدولية، ويعلمون أن أمامهم تحديات تتعلق بمعاش الناس، ومعدلات الفقر المرتفعة، والبنية التحتية المهترئة إن وجدت أصلا في غير حواضر المدن والأرياف البعيدة.

فكرة الدولة بالذات قد تكون غريبة على ثقافة المجتمع الأفغاني، فجيلين أو 3 أجيال -إن شئت القول- ربما لم يعيشوا في كنف الدولة. فجيل الحرب ضد السوفيات، ثم جيل ما بعد السوفيات وحكم طالبان وسقوطه، وحتى جيل شباب اليوم الذي ولد عقب الاحتلال أصبح بعمر طلبة الجامعات لم تترسخ لديهم جميعا "الدولة" بوصفها مفهوما وقيمة. فلا يخفى على أحد أن ذاك الجيل عاش بدولة ينخرها الفساد ولم تترسخ فيها القيم الديمقراطية من أركان الدولة ومؤسساتها، ونكاد نجزم أنه عاش اغترابا ثقافيا حتى وإن لم يغادر بلده، بما في ذلك شباب الحركة أنفسهم وكلنا رأى كيف ارتدوا النظارات الشمسية والتقطوا صور "السيلفي".

لن ننتظر من طالبان نصب صناديق الاقتراع، أو "لويا جيرغا" منتخب يضم أحزابا وكتلا برلمانية، ولا الاستشهاد بموتنسكيو ونظريته الشهيرة "فصل السلطات"، إذ لم يتضح بعد ما ستفعله الحركة بالسلطة التشريعية -على سبيل المثال- في ظل مرجعية الشريعة. طريقة حكم طالبان -أيا تكن- لن ُترسخ بدورها الدولة بوصفها قيمة وثقافة وسيدور حولها الكثير من الجدل والتحليلات وقد لا يكون لها شبيه في العالم.

أمام طالبان -حسب اعتقادنا- خياران لا ثالث لهما، إما أن تتنصل من كل ما تعهدت به، وهي تعي أن ذلك سيعود بحصار على الدولة ومقاطعة عالمية لها في تكرار لما حدث بالفترة بين عامي 1996 و2001.

أما الثاني فهو الانفتاح على العالم والدخول في الاتفاقات الدولية والتعامل مع المنظمات الدولية والتفاوض مع الشركات المتعددة الجنسيات، ذاك الدخول سيزيد من مرونة الحركة وربما يقودها إلى المقايضات السياسية والاقتصادية، ويسبق كل ذلك البحث عن الاعتراف وإضفاء الشرعية على حكم الحركة للبلاد.

كنتُ قد أسلفت أن كتابين خطرا على بالي عند متابعتي للحدث الأفغاني، تحدثنا عن الأول وآن أوان الختام بالكتاب الثاني وهو "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" للمفكر الأميركي الجنسية الياباني الأصل فوكو ياما، فقد عنون الرجل القسم الثالث من كتابه بـ"الصراع من أجل الاعتراف" وهو ما نعتقد أن طالبان ستسلكه، بل ستجتهد في الحصول على الاعتراف الدولي الذي ربما ستقدم تنازلات كبيرة من أجله.

" سوف لا يبقى في نهاية التاريخ أي منافس حقيقي للديمقراطية الليبرالية" ذاك ما ذكره الرجل في الصفحة رقم 205، حينما بشّر البشرية أنها ستشهد ميلاد عصر جديد يتفق فيه الناس كلهم على المُثل الديمقراطية عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، ورغم الجدل الذي أثاره الكاتب، تُحسب للرجل شجاعته وتراجعه عما أثبتت الأيام عدم صوابه.

مجلس حكم طالبان قد يكون فريدا، وربما يشبه نظام الجارة إيران بعض الشيء، بحيث يقابل يكون أمير المؤمنين على رأس مجلس الحكم مقابلا للمرشد الأعلى، وبالتأكيد لن يكون مثاليا ولن يجلب الرفاه والرخاء للبلاد بين عشية وضحاها، لكن -أيا كانت صيغته- سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش نموذج دولتها القديم ونموذج دولة داعش الرديف. ورغم كل التوافقات والتباينات، نعتقد أنه لن تظهر دولة بتلك العقلية بعد مجلس طالبان في قادم الأيام.

قد نكون بشّرنا بذلك -حالنا حال فوكو ياما الذي لم تتم بشارته- وقد يظهر ذاك النموذج مجددا، لكننا من دون أدنى شك سنتحلى بشجاعته ونقول إننا أخطأنا فيما ذهبنا إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.