شعار قسم مدونات

إدارة الأزمة.. بين تحولات الطبيعة وهوس المؤامرة

تلتهب النيران وتشكل حرائق سرعان ما تداعى لها العالم لإطفائها متناسيا حجم الكوارث البيئية التي تسببت بها حضارته وشغفه بالاستهلاك (رويترز)

 

"الأرض تحترق"، هكذا عنونت قنوات ووكالات الإعلام الدولية ما يحدث اليوم من حرائق في كل مكان من العالم، حيث تلتهب النيران لتأخذ في طريقها كل ما تذروه ريحها من رماد نحو الغابات والقرى والمدن، حرائق سرعان ما تداعى لها العالم لإطفائها متناسيا حجم الكوارث البيئية التي تسببت بها حضارته وشغفه بالاستهلاك، غير آبه بتحذيرات خبراء البيئة والمناخ الذين أبدوا مخاوفهم وقلقهم من التغيّرات المتسارعة في درجات الحرارة وارتفاع مستوى سطح البحر، فهل ينتظر العالم أن يستفيق على كارثة بيئية أشد وأخطر مما يراه اليوم من فيضانات وحرائق تأتي على الأخضر واليابس كي يصلح ما أفسدته حضارته؟ أم أنّ الحاصل من "ارتباك طبيعي" ما هو إلا حالة اعتيادية لدورة المناخ والطبيعة، وجب التعامل معها بالوسائل الحديثة لتمكين الإنسان من ردع التغوّل الطبيعي؟

 

التمكين الحضاري.. ترويض نشاط البشرية لا الطبيعة

ثمة عامل مميز منح الحضارة الغربية استمراريتها وكفاءتها في الهيمنة على العالم، وهو مقدرتها على "الاستجابة للمتغيرات الطارئة" بنظامها الاجتماعي والاقتصادي، ويعتقد الكثيرون أنّ ما بلغه الغرب من تطور وقوة هو نتيجة هوسه بتطوير وسائل الإنتاج والزحف نحو مستعمرات جديدة لنهب ثرواتها، لكنّ ومع ما يمكن وصفه بالمنطق السّائد لدى المجتمعات المنضوية تحت لواء الفقر والجهل والموت، كون الحضارة التي يتمتعون بخيراتها وهم يأملون الهجرة إليها، أنّها مع الفائض في انتاجها لوسائل الترفيه والخدمات، مكّنت البشر من تهديدات الطبيعة وهي عاجزة أمام سطوة الإنسان على الإنسان.

استطاع الغرب بتفوقه العلمي والتكنولوجي أن يعزز من قدرات حضارته في التصدي للكوارث البيئية والبشرية، ليدير أزماته وفق "إستراتيجية استباقية" أخضع بموجبها تجاربه السّابقة مع المتغيّر الطبيعي للدراسة والتحليل، بغية خلق استجابة سريعة وحلول متعددة لما يعتبره تهديدا مباشرا لوجوده، حتى إنّ تجاربه الأليمة مع شرور الطبيعة أكسبته مهارات كانت مهمة في البحث عن حلول تعيد للطبيعة توازنها.

ومع أنّ الأزمات تتفاوت نتائجها وتداعياتها، فإنه لتحقيق فعالية في حل أزمة ما؛ من الواجب معرفة تصنيفها بداية، هل هي وفق حدود وإمكانات البشر أم أنّها حالة مستعصية من الشّر الطبيعي لا يمكن إدارته؟ فالهجرة غير النظامية والكوارث الطبيعية مع أنّ البشر يعترفون بهول تقلباتها المخيفة؛ فإنّهم يتوارون عن إصلاح ما أنتجه نشاطه الاقتصادي والعسكري من نفايات حضارية، كما أنّ الأرض ذاتها لها من المتغيرات الطبيعية التي تلّخصها الفيضانات والحرائق ما لا يستطيع البشر استيعاب نتائجه المستقبلية، لكنّه يدرك بأنّ "الاحتباس الحراري" ما هو إلا ضريبة قاسية على جشع الحضارة الصناعية بسبب استغلالها المفرط للموارد الطبيعية.

ولتقليل الخسائر النّاجمة عما لا يمكن إدارته من أزمات طبيعية وبشرية، فإنّ الحضارة الغربية ساهمت بشكل كبير في صياغة إستراتيجية حمائية للإنسان والطبيعة، وقد شكلت مؤتمرات المناخ بادرة إيجابية لتحذير العالم من المخاطر المحدقة بهم في السنوات القادمة، لربما يتكوّن فهم جديد يمكّن الحضارة من "المتغيّر الطارئ" بشكل استباقي، ولأنّ الطبيعة اعتبرت تهديدا مميتا للإنسان منذ بدء الخليقة؛ فإنّها لا ترقى لمستويات الجنوح البشري نحو الشر لتحقيق رغبات ذاتية، وعلى عكس الطبيعة في انتقائها لضحاياها، فالشر البشري يصعب فهم مراده مع ما يرتكبه من جرائم انتقامية وعبثية، فمن استغلاله للطبيعة إلى حروبه اللامنتهية يقبر الإنسان الملايين من سلالته بجرائم تتعارض مع ما يدّعيه من قيم وحضارة، ليصنع تاريخا دمويا من القتل والتهجير والإبادة.

وتمثّل السجون موطنا "مثاليا" لتجسيد تناقضات الحضارة الغربية في تعاملها مع الإنسـان، فـ"مهمة" السّجون أن تعيد "الشّر البشري" إلى طبيعته وفق عقوبات رادعة، تستلهمها الحضارة من القيم الأخلاقية والدينية لكبح تنامي مخاطر الشر، غير أنّ الحلول الحقيقية تكمن في طبيعة النظام الاجتماعي وتحدياته، وإن كان لا "يملك" من المقومات الأخلاقية والقيم الإنسانية ما يتجاوز به الوقوع فيما يجرّمه القانون والأخلاق، فإنّه يسهل صنع نماذج بشرية أكثر وحشية وقساوة من الطبيعة ذاتها، حينها يستحيل على الشر البشري المستشري التعايش والالتزام مع ما تفرضه إدارة السّجن واختياراتها المحدودة لواقعه المستجد، بل يتضاعف العنف إلى مستويات خطيرة يسود بموجبها التفكير في  التمرد والهروب والقتل، لأنّ المجرم لا يريد الاعتراف وتقبل كيف أنّ جرمه كان نتيجة ما اقترفه الشر الصادر عنه، بل ضحية "تراكمات الحضارة" التي جرّدت النّفس البشرية من وازعها الأخلاقي.

وتعمل السّجون في "حماية الشر" داخل أسوار مسيّجة كحياة مقيّدة بغرض ترويض المجرمين، فبدل أن تقوم الدولة بتحقيق العدالة الكاملة لكبح جماح الشر البشري في السطو على الطبيعة البشرية، يتم خلق منتجعات "تكبّل حرية الفرد" ضمن معطيات حضارية لا تعاقب المجرم على جريمته بقدر ما تمنحه "إعادة تمركز" يفضي في غالبية أمره إلى المزيد من الإرهاب والحروب، فالحضارة الغربية مع تمسكها بحقوق الإنسان ورفضها تحقيق عقوبة الإعدام على من أدينوا بجرائم ضد الإنسانية، فإنّها متورّعة في تأويلها ماهية الجرائم ذاتها، والتي يمكن أن تلزم بإسقاط عقوبة الإعدام على الجناة، وينظر إلى "المسؤولية الأخلاقية" للحضارة في حماية الإنسان من الشر الذاتي والموضوعي، على أنها مستحضر غربي سرعان ما يتلاشى بريقه أمام خوفها وصراعها مع الآخر، حيث الإسلاموفوبيا ومعاداة السّامية تفرقهما السياسات العنصرية والقوانين الغربية.

 

المتآمرون على ذواتهم.. حجر الماء

في جميع مناحي الحياة يلقي البشر إخفاقهم على ما يعتبرونه تهديدات خارج إرادتهم، ويحدث ذلك عندما يستسلم الإنسان طوعا أو كرها إلى ما يسمى بالدولة، حيث تصبح "الضرورات الحياتية" لبقائه من معاش وأمن مرهونة بقوتها وفاعليتها، وما من دولة إلا وقد احتكرت نظاما معينا تدير به شؤونها وأزماتها وفق مراحل تطورها، وأوّل ما تفعله "تقييد الحريات العامة" و"الاستحواذ على مقدرات الأرض" لتسييرها وإعادة إنتاجها، مع ما تزعمه من مصالحة وطنية مع شعبها، وهي بذلك تحتكر "فعل الشر" وفق قوانين ترسخ لهيبتها وجاهزيتها في صد أيّ عدوان/تمرد، وحالما يحدث انفلات باحتواء أزمة اجتماعية/طبيعية يصبح "التمرد الشّعبي" على مؤسسات الدولة وقوانينها مسألة واردة الحدوث، في ظل ظروف تُظهر عجز الدولة وهوانها في تسيير الأزمات واحتوائها.

وبدل أن تعيد الدولة النظر في سياسات إدارة أزماتها مع المرحلة التي تقتضيها المصلحة الوطنية في تقديم الكفاءات والعمل على خلق استجابة سريعة بالحصول على المساعدات والمستلزمات لحلّها، تنفلت "الألسنة الزرقاء" لتنهمر سيول المشبّعين بإخفاقهم الذريع والمهوسين بنظريات المؤامرة ليسكتوا معهم صوت العقل، متشبهين بـ "حجر الماء" وهو يشوّه صفوة البحر بدوامات دائرية سرعان ما تتلاشى أمام الحقيقة.

ويقع إخفاق الدولة على عاتق السلطة الحاكمة بها، لأنّها سعت جاهدة لربط استمراريتها على حساب نضوج وتطور مؤسسات الدولة، وذلك بالسّماح للفساد والبيروقراطية أن يعششا داخل هياكلها الحيوية والحساسة، ونتحدث بشكل دقيق عن 3 أنماط من الدول ضمن هذا العالم المترامي على الصراعات والمصالح، فمن "الدولة الوطنية" التي تعمل على مصلحة شعبها إلى "الدولة الفاشية" الممسكة بيد من حديد وصولا إلى "اللادولة"؛ حيث النظام يستثمر في الفوضى واللامبالاة، ولعل النموذجين الأخيرين الأكثر انتشارا بوطننا العربي بسبب المآلات المخيفة لما تنتجه أزماته المتتالية، فلعقود مضت رهنت الأنظمة المستولية على الحكم الدولة -بسياساتها الاقصائية والمافياوية- التخلي عن وظيفتها إلى ما يشبه الادعاءات بتآمر العالم على إسقاط الدولة في الفوضى والحروب الأهلية.

ولا تخضع علاقات الدول فيما بينها للقيم الأخلاقية ولا للروابط الاجتماعية، فهي علاقة مصلحة تظهر معها الاتحادات والتحالفات لمواجهة الأخطار والتحديات، بينما تتمسك الحكومات الفاشلة بنظرية التآمر عليها مسلّمة شعوبها لهواجس الانقسام والتشظي اللذين يتعززان في البيئة الاجتماعية بسبب ما أنتجته الأنظمة طيلة حكمها من تسيب وانفلات، والغريب في الأمر أن تخضع دولة لا تتخلّف -كما تزعم بنصرة القضايا العادلة في العالم- أن تقف عاجزة أمام هذا التكالب "المؤامراتي" عليها من أعدائها وهي تندب إخفاقها وتخاذلها بالخطابات الصاخبة وأغانيها البالية، بل إنّها مستعدة لإلقاء خيباتها على المتآمرين الذين يدركون أنّ الخطر يأتيها من بنيتها الاجتماعية الهشة، والتي شكلت تحديا وعاملا مهما لاستقرارها وأمنها القومي.

وبعكس ما تروجه الأنظمة المستبدة مع كل أزمة عن مؤامرة تدبر للنيل من صمودها وممانعتها ضد الإمبريالية الغربية وقوى الشّر الاستعمارية؛ فإن الحضارة الغربية لا تتوقف عن تصدير شرورها للعالم للقضاء على ما تعتبره تهديدات، زاعمة نشر الحرية والديمقراطية بغية التصدي للإرهاب والتطرف، وذلك الشر الذي يسكن الغرب تمكّن من قيمه الحضارية بقوانينه المناهضة للتنوع والحريات، وهو يغيّر مكانه مع كل حجر تتقاذفه ادعاءات القوة والصمود.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.