شعار قسم مدونات

إسماعيل خان.. نموذج لنهج طالباني جديد

إسماعيل خان (75 عاما) نجا من الأسْر على أيدي مسلحي طالبان للمرة الثانية (مواقع التواصل)

يُحكي أن أحد الأفغان أخذ بالثأر بعد 40 سنة من مقتل قريبه، فقالت قبيلته: إنه استعجل! ويدلل هذا المثل المشهور عند الأفغان أنهم شعب لا ينسى، وأن الثأر والانتقام من أبرز سماته.

لكن أفغانستان قد تكون تعيش واقعا مغايرا لهذه التقاليد على أبواب حقبة جديدة لطالبان، فقد كان مفاجئا سقوط مدينة هرات عاصمة الغرب الأفغاني بيد مسلحي الحركة قبل يومين من سقوط العاصمة كابل منتصف أغسطس/آب الجاري، أما الأكثر إثارة فهو عدم المساس بالزعيم الأفغاني إسماعيل خان الذي خاض معها حروبا طاحنة، وأسَرته في جولتها الأولى، وفر من معتقله ليعاود كرة الحرب ضدها، ثم انضم "مع تحالف الشمال" إلى التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة ضد طالبان وأسقط نظامها نهاية عام 2001.

وفي أوج نشوة انتصارهم، عامل قادة طالبان رجل هرات القوي بشرف واحترام، وعقدوا أول اجتماع في منزله وبرضاه، ثم خيروه في أن يبقى مكرّما في عرينه الذي سقط، عاصمة الغرب الأفغاني، أو الانتقال إلى العاصمة كابل، وكان له ما أراد، وهو اللحاق بأسرته التي تعيش في مدينة مشهد الإيرانية القريبة من الحدود الأفغانية.

لم يكن لأحد يعي التاريخ الأفغاني أن يتوقع نجاة إسماعيل خان (75 عاما) من الأسْر على أيدي مسلحي طالبان للمرة الثانية، وأن يلقى معاملة تليق بشريف قوم لم تهدر كرامته، وظهر ذلك في مقطع فيديو انتشر على وسائل التواصل، ولسان حاله يكرر إعلان النبي الكريم صلى الله عليه سلم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

وتكررت روح التسامح غير المعهودة عند الأفغان في جميع المدن الرئيسية، فلم تسجل حادثة انتقام واحدة بحسب مصادر عديدة، وفي العاصمة كابل أظهر تسجيل محادثة هاتفية بين المسؤول الأمني لحركة طالبان والرئيس السابق حامد كرزاي، يطلب فيها المسؤول الأمني قائمة بأسماء وعناوين الشخصيات المهمة في النظام السابق التي تخشى على حياتها من أجل تأمين الحماية لها.

 

تاريخ من نقض العهود

لقد أعلنت طالبان عفوا عاما، لكن تاريخ أفغانستان لا يعرف احترام مثل هذه الإعلانات، وما زال إعدام الثائر حبيب الله كَلِكاني في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1929 حاضرا في الذاكرة الأفغانية، وذلك بعد ثقته بتعهد قاطع بالعفو خطه له الملك محمد نادر شاه بين أسطر آيات القرآن الكريم.

اطمأن كلكاني -الملقب بخادم دين رسول الله- لقسم العفو المغلظ، وأقنعه الوسطاء بترك السلاح والاستسلام مقابل ضمانات ومكافآت، لكن ما إن وقف أمام عرش نادر شاه حتى أمر بإعدامه رميا بالرصاص مع 12 قائدا ميدانيا استسلموا معه، وضربت قصة الثائر -الذي ينسب إلى بلدة كلكان شمال كابل، ويعرف كذلك بالكوهستاني نسبة إلى أصوله- مثالا على عدم الأمن من الغدر حتى لو كان العهد مسطرا بين كلمات المصحف.

 

التيارات الفكرية

لعل طالبان تكون قد تجاوزت أولى العقد التي يخشاها مناوئوها في الداخل والخارج، وهي روح الانتقام، وأظهرت نوايا حسنة في تعاملها مع تيارات ثقافية وفكرية لا تنسجم معها، وثمّن قادتها مدارس فكرية ناضلت إلى جانبها لمواجهة الاجتياح الثقافي، بينما كانت منشغلة في مواجهة الاجتياح العسكري.

ولم تمس طالبان الجديدة -إن صح التعبير- بأي من المراكز التعليمية والثقافية أثناء اجتياح مسلحيها المدن الرئيسية وعواصم الولايات، ورغم ذلك هناك جدل عالمي واسع بشأن مدى الحريات التي يمكن أن تتساهل معها الحركة التي ولدت من رحم المدارس الدينية التقليدية.

وهو ما يؤشر على نهج مخالف للسياسات التي تبنتها في عهدها الأول، والذي شمل حظر أي أدبيات أو منهاج تعليمية للمدارس الفكرية التي لا تتفق مع منهجها، وأقصد منها الإسلامية، إذا سلمنا بإجماع شعبي على نبذ الأفكار الاشتراكية والشيوعية بعد انسحاب القوات السوفياتية وسقوط حكومة نجيب الله الاشتراكية.

ولعل الانفتاح على طالبان ساهم إلى حد كبير في تغيير سلوكها السياسي والفكري، فالحركة التي كانت محاصرة ومنبوذة قبل الإطاحة بحكمها بتدخل عسكري أميركي أطلسي، لم تعد كذلك بعد انسحاب هذه القوات وانهيار النظام الذي صنعته.

لقد جاب قادتها سرا عواصم دول شرقية وغربية على مدى 20 عاما، ولا سيما تلك التي ترى في طالبان فرصة لإيلام الولايات المتحدة واستنزافها، ثم جاء غزل السلام ليشركها في محادثات ماراثونية استمرت عدة سنوات، استقر معظمها في الدوحة، ووفر تساهل الدول المعادية -أثناء بحثها عن مخرج من مستنقع أفغانستان- لقادة الحركة فرصة للتعرف على تجارب دول وحركات ومنظمات تتبنى الفكر الإسلامي، وتتعايش مع الأفكار السياسية الأخرى، ويخوض بعضها تجارب مماثلة في مقاومة المحتل، وهو ما ساعد في تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات والتجارب.

 

التعليم والحريات

ما لم يدركه العالم أن الفارق كبير بين دخول طالبان كابل عام 1996 وعودتها إليها عام 2021، وقد انضم للحركة آلاف من خريجي الجامعات المحلية والأجنبية، وتلقى كثير من أولاد قادتها اليوم -بنين وبنات- التعليم في مدارس عصرية، ومن هنا لن يكون منطقيا حظر تعليم بنات غيرهم، كما لم تعد ندرة المدارس والمدرِّسات المسلمات ذريعة مقبولة في بلاد تسلمتها في المرة الأولى بعد حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس.

وبعد أن كانت جامعة كابل المهدمة الوحيدة في البلاد لدى تسلم طالبان السلطة على أنقاض حكومة أحزاب المجاهدين، يفرض عليها الواقع اليوم التعامل مع إدارات أكثر من 80 جامعة حكومية وخاصة موزعة على جميع المدن الرئيسية، كما عاد إلى أفغانستان آلاف الخريجين من دول مختلفة بخبرات وتجارب لم تكن موجودة في عهدها الأول.

أما قضية الحريات فقد تكون التحدي المحلي والعالمي الأكبر الذي قد يواجه عهد طالبان الجديد، ولا سيما أن الحريات وحقوق المرأة كانت واحدة من العوامل الرئيسية في تأليب العالم على طالبان في تجربتها الأولى، وإن كان كثيرون يرون في إثارة قضية الحريات وحقوق الإنسان حقا أريد به باطل، ومع أن المؤشرات تبعث على التفاؤل، فإن طالبان مدعوة للتعاطي مع هذا الملف بإيجابية، وقد حان الوقت لأن تقلب الموازين بدأ بإعلان مبادئ بشأن حقوق المرأة، وأول حقها التعليم الذي تعرف به حقوقها الأخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.