شعار قسم مدونات

أهو انهيار المنظومة البيئية أم لعنة الأم غايا؟

خبراء جيولوجيا نفوا أن تكون البيئة الصخرية مانعة لحفر الأنفاق من جنوب لبنان
لقد لوثنا الأنهار والبحر والهواء ولم نترك جريمة في حق الطبيعة إلا ارتكبناها بدم بارد (الجزيرة)

"أنا لا ألوِث ماء النهر" الوصية الـ34 من وصايا ماعت إله العدل عند الفراعنة، منذ بداية الخلق حرص الإنسان على الطبيعة وأحاطها بالعناية والاهتمام لأنه كان يعي جيداً مدى احتياجه لها، فهو يأكل من حصاد الأرض ويتنفس نسماتها ويشرب من أنهارها ويستظل بأشجارها، فكان وعي الإنسان الأول وإدراكه أكثر حكمة ورشداً ممن تلاه ولو كانوا أكثر منه تطوراً، ولا أقصد هنا التطور العلمي أو العقلي بقدر ما أقصد التطور التكنولوجي الذي لم ينعم به الإنسان القديم.

كما قدّس الإغريق القدماء الأرض قبل نزول الرسالات ومثلوها بالأم "غايا" ربة الأرض وراعية الأطفال والطبيعة والنباتات، فهي بطلة من بطلات الأساطير التي روت عن عظمتها وانتقامها.

كذلك ذكر في العهد القديم والكتب السماوية مراراً علاقة الإنسان بالطبيعة التي طالما ساعدته على التأمل، فنجد على سبيل المثال نبي الله إبراهيم الذي ساعده التأمل بالطبيعة على الإيمان بوجود خالق عظيم منحنا من خلالها آيات ومعجزات تثبت وجوده وتدل عليه. كذلك قرأنا عن معجزات تدل على غضب الطبيعة وسخطها كالطوفان وانتشار الحشرات والصواعق والرعود والسيول بما كسبت أيدي الناس، وما إلى ذلك من آيات لأولي الألباب تثبت أن للطبيعة ردود فعل.

وكانت إحدى وصايا النبي محمد عليه الصلاة والسلام التي جاءت في سياق حديث شريف قال فيه "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" -رواه أحمد- والفسيلة هي الشتلة الصغيرة.

للأسف، كانت الطبيعة أول وأكثر ضحايا التطور التكنولوجي وهي لا تستحق ذلك، فالطبيعة لا تكذب ولا تعرف المجاملة وهي عادلة لا تبادلنا إلا ما منحناها إياه إن لم يكن أكثر.

لقد منحنا الله وطناً رائعا جبالا وسهولا وبحرا وأنهارا، لبنان من أكثر البلاد العربية مروجاً وأشجارا، ولا ينبغي أن نغض الطرف عن قيمة الشجرة الأسطورية في كافة حضارات الأرض، ليست قيمة طبيعية وحسب، بل قيمة ثقافية وفلسفية أوحت للفلاسفة بالعديد من الأفكار القيمة، كذلك للعلماء الذين أذهلوا العالم باستكشافاتهم ونظرياتهم التي كانت الشجرة هي الملهم الأساسي لها.

لقد قطعنا الأشجار وقتلنا الحيوانات البرية النادرة وساعدنا على انقراضها ونحن نعلم أنها عامل أساسي في عملية الاتزان "الإيكولوجي" في الكون، وهو باختصار أن الله لم يخلق كائناً دون فائدة وبلا وظيفة، فلا يوجد كائن ليس بحاجة لكائن آخر لكي يبقى ويستمر ولكي يتوازن الكون، لقد لوثنا الأنهار والبحر والهواء ولم نترك جريمة في حق الطبيعة إلا ارتكبناها بدم بارد.

تشتعل الحرائق في الأحراش والأودية في هذا الوقت من السنة نتيجة لارتفاع درجات الحرارة، التي هي نتيجة أيضاً للتغير الذي طرأ على القشرة الأرضية واتساع ثقب الأوزون الذي هو نتيجة أخرى للاحتباس الحراري بسبب جرائم الإنسان بحق الطبيعة، كالإسراف في حرق الطاقة واستعمال الوقود والمواد الكيميائية والكهرباء وانبعاث الغازات السامة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين، تلك الغازات التي كانت الأشجار كفيلة بامتصاصها.

يحضرني هنا موقف حدث منذ سنوات قليلة وتحديداً عام 2015، حين دعت الوسائل الإعلامية إلى وقفة تضامنية ضد الاحتباس الحراري بالتعاون مع ناشطين بيئيين حملة بعنوان "ساعة الأرض"، حثَت المواطنين على إطفاء كل الأضواء لمدة ساعة كاملة وبالفعل وجدت الحملة ردود فعل إيجابية وتفاعل معها الكثير من المواطنين من كافة محافظات لبنان، كما استجابت لها البلديات وبعض المؤسسات الكبرى.

في تلك السنة كان النشطاء البيئيون يبذلون أقصى جهودهم لتوعية الشعب بهذا الصدد، كما كانت هناك جهود محلية ودولية تبذل من أجل تحسين الموقف اللبناني في إطار المشاركة في مفاوضات المناخ الدولية التي تنظمها مفوضية الأمم المتحدة بشأن المناخ والمعروفة باتفاقية "كيوتو".

وقد انتهزت بعض الشركات الخاصة الوضع بشكل إيجابي وقدمت دراسات جدوى لمشاريع إنتاج الطاقة من المصادر الطبيعية والمتجددة كالشمس والرياح والنفايات، ولكن كل هذه المحاولات لم تأت بثمارها المنشودة ومنها ما قد رُفض، وذلك لعدم الدعم والتمويل ورفض التعاون والدعم من قبل الحكومة اللبنانية المتمثلة في وزارتي الطاقة والبيئة، اللتين كانتا سبباً أساسياً في هدر أموال طائلة بلا فائدة تعم على الشعب.

كما انطلقت المبادرات والتظاهرات المشجعة على استبدال الطاقات المحروقة بتقنيات داعمة للبيئة أو استعمال الأنواع الأقل استهلاكاً للوقود، للحد من انبعاث الغازات الضارة والحض على استبدال السيارات العادية بالسيارات التي تعمل بالبطاريات أو استخدام الدراجات النارية التي تعمل بالشحن.

بعد حوالي 6 سنوات من تلك المبادرات والوقفات والمشاريع التي باءت جميعها بالفشل الذريع نتيجة رفضها من قبل الحكومة اللبنانية المتورطة في تفاقم الأزمة، نجد لبنان غارقا في ظلام حالك نتيجة نقص الفيول، يفقد سنوياً مساحات شاسعة من الغابات والأشجار والأحراش جراء التصحر والحرائق التي ليس لدينا إمكانيات ولا مياه كافية لإطفائها ولا أحد يسعى لمعالجة الأمر، تتسابق البلديات في جز الأشجار والقضاء على المساحات الخضراء.

ومن ناحية أخرى قد نجدها إلى حد ما إيجابية في حق البيئة، فقد قل نسبياً استعمال المواطنين لسياراتهم نتيجة عدم توفر البنزين، ونتيجة انقطاع الكهرباء المتواصل فقد وجدوا أنفسهم مجبرون على الترشيد في استعمال البرادات والمكيفات.

كل الأبحاث البيئية تنسب ظاهرة الاحتباس الحراري إلى السلوك البشري المدمر للطبيعة، غاز ثاني أكسيد الكربون هو المتهم الأول في ارتفاع درجات الحرارة جراء حرق الطاقة كالمازوت والبنزين والغاز والفحم وما إلى ذلك مما نحتاجه في حياتنا اليومية، كما أثبتت الأبحاث أن تأثير الطائرات النفاثة التي تنتهك سماء لبنان يومياً أكثر ضرراً من حرق كل أنواع الطاقة.

وعلى صعيد دولي تشير أبحاث برنامج التنبؤ بالمناخ الذي يشارك فيه 100 ألف باحث من دول مختلفة، إلى أنه لن تكون الحياة ممكنة على كوكب الأرض بعد 50 عام من الآن بسبب الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة، سلالات وكائنات ستنقرض ومنها ما انقرض بالفعل، زلازل وبراكين نتيجة تغير القشرة الأرضية، كذلك حرائق الغابات وفيضانات وأعاصير تدمر المدن الساحلية الآسيوية وبعض المدن الأميركية بسبب الاحتباس الحراري.

بعد صمت دام 8 سنوات، أصدرت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) التابعة للأمم المتحدة تقريراً يتضمن تحذيراً شديد اللهجة بشأن ما آلت إليه الأزمة المناخية الحالية التي باتت نهايتها محسومة بحلول العام 2050، ولا يملك العالم رفاهية الوقت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والجدير بالذكر أن بنود اتفاقية باريس للمناخ قد باءت بالفشل الذريع، مما سيؤّثر تباعاً على الطبيعة الجيولوجية وسيؤدي حتماً لانحسار الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر وارتفاع الحرارة بالمناطق القطبية، كذلك ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات واختلاف نسبة حموضتها.

وقد اكتفت اللجنة بتوجيه التحذيرات وحسب، ولم تتقدم بأي توصيات لحكومات العالم، وقد ناشدت الأمم المتحدة زعماء دول العالم بحتمية خفض غازات الاحتباس الحراري.

سيواجه العالم اضطرابات خطيرة بالمناخ كموجات الحر الفظيعة التي طرأت على بعض البلاد مؤخراً مثل كندا وفنلندا وسويسرا والنمسا والبرتغال. ومن المتوقع أن تواجه الدول الحارة في غرب آسيا وشمال أفريقيا والحوض الشرقي للبحر المتوسط العديد من الموجات الحارة التي ستتسبب في اندلاع الحرائق.

ورغم هذه الكوارث الطبيعية ما زالت أميركا تعارض اتفاقية "كيوتو" للمناخ التي وقعت عليها معظم بلاد العالم، للحد من انتشار ثاني أكسيد الكربون والميثان وتقنين استخدام المحروقات، بل كانت أميركا وإسرائيل سبباً لحروب المناخ التي انتشرت في العديد من بلدان العالم عن طريق استخدام تقنيات خبيثة باستطاعتها تغيير مناخ أي بلد إلى الأسوأ.

أقاليم باردة تعيش قيظا لا يحتمل وأقاليم حارة تهطل فيها الأمطار صيفاً، هناك من يرى أن أميركا وإسرائيل قد استخدمتا تلك التقنيات للتحكم في مناخنا والعمل على اضطرابه، وإن كنت أرى أن إسرائيل تتميز أكثر بالحروب الإلكترونية والاستخباراتية بعيداً عن المناخ، وسواء كان ذلك أو لم يكن فالبشر هم السبب، فمن استخدم سيارة كمن قطع شجرة كمن سيَر طائرة نفاثة.

عزاؤنا الوحيد أن لبنان الآن هو براء من الاحتباس الحراري فلا بنزين ولا كهرباء ولا حتى مولدات، فهل ما نعاصره الآن هو أزمة عابرة وستمضي نتيجة لفساد وانهيار المنظومة البيئية أم هو غضب الطبيعة؟ أو كما تقول الأسطورة انتقام الأم "غايا"؟ّ

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.