يتفانى الصحفيون الغربيون دائما كي يظهروا بمظهر حيادي وموضوعي غير منحاز لفريق معين من الفرقاء، كما يحاولون الادعاء بأنهم أصحاب موقف وسطي من الأحداث التي ينقلونها. ولكن هذا الأمر غير صحيح أبدا، فمن يواظب يوميًّا على متابعة الشأن اللبناني عبر المحطات التلفزيونية الغربية أو الجرائد الأجنبية الإلكترونية؛ يجد أن الأمر مختلف على الإطلاق؛ فالصحفيون شأنهم شأن سائر الناس على كافة مشاربهم، منهم المنحازون لقضايا معينة، ومنهم المتعصبون لآراء واتجاهات سياسية وفكرية وعقائدية، وليس منهم إلا قلة هم المحايدون فعلا.
ودائما يحاول الصحفي بشكل لاشعوري التأثير على القارئ أو المشاهد، وتوجيه اهتمامه إلى نقاط بعينها قد تكون متناقضة ومختلفة كليا عن مضمون الموضوع أو القضية المطروحة.
منذ اندلاع الثورة اللبنانية في 2019، ومرورا بالأحداث حتى اليوم؛ نجد أن الإعلام الغربي يعمل على النقيض تماما من مصلحة لبنان أو دعم الثورة، وإن كانت بعض وسائل الإعلام الغربية تعلن جهرًا عدم تأييدها النظام الحالي، ولكنها تعمل على العكس من ذلك، فقد تكون مصالحها وأولوياتها أهم من مصالح الشعب اللبناني وحقه في اختيار حكامه ونظام حكمه، أو قد تكون "متواطئة" بشكل أو بآخر مع القنوات التشريعية المتمثلة في البرلمان والمحاكم الدستورية التي تضمن لها مصالحها الدولية والإقليمية. فكل شيء وارد ومحتمل وغير مستبعد، كما أن قانون ميكافيللي يفرض نفسه "بوقاحة" في الأوساط الصحفية الغربية.
أما على الجانب الآخر، فنجد فريقا منهم مغيّبا عن الأحداث، أو غير ملم بالحقائق وينقل الصورة كما هي من دون الخوض في التفاصيل. على أية حال أنا لم يعد لدي شك في أن معظم مؤسسات الإعلام الغربي جزء من مخطط هدفه كسر لبنان وتشويه ثورته.
منذ بداية الحجر الصحي في شتاء عام 2020 اعتدت على متابعة الأخبار يوميا عبر المنصات الإلكترونية، خاصة التي تهتم بالشأن اللبناني ومتابعة تطور الأحداث؛ فأصبحت ملمة بالأدوات التي يستخدمها الصحفي الغربي، وأقارن بين الآراء، وأقرأ ما بين السطور، واستشف أهدافه؛ فللكتابة نبرة كما للصوت، ويستطيع البعض استشعار نبرة القلم ومضمون الرسالة من الوهلة الأولى؛ فوجدت كثيرًا من الأساليب المختلفة، منها ما يبث الحقد والتعصب، ومنها ما يهدف إلى خلق أجواء من اليأس والقنوط والإحباط وينشر رؤية ضبابية عن وضع لبنان ومصيره.
يستخدم الإعلام الأجنبي ألفاظا معينة للمراوغة والخداع وتزييف الحقائق، ويستخدم دائما أفعالا ينسبها لفاعل غير محدد، مثل: يصرح، يزعم.. إلخ، هذه الأفعال تحديدًا نلاحظ وجودها في جميع المقالات ونسمعها في التصريحات والمقابلات الحية أو المسجلة لفرض أجواء مبالغ فيها من المصداقية الوهمية وجذب التفاعل والاندماج، ومثال على ذلك "المعارضة اللبنانية تدّعي أن الدولة متورطة في عملية انفجار مرفأ بيروت". الخبر جاء في جريدة الإندبنديت، وكلمة تدعي هنا تربك القارئ أو المستمع وتشوشه وتخلق لديه قناعة أنه لا دليل على الدولة، وأنها مجرد تكهنات، كما أن استعمال المبني للمجهول لا استغناء عنه.
لكن الإعلام الغربي يروج لأولوياته ومصالحه الدولية، فعلى سبيل المثال منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة لم يتوان الإعلام الأميركي عن نشر الأخبار التي تبدو في ظاهرها دعمًا للثورة التي أطلق عليها الإعلام الغربي "الربيع العربي اللبناني" كمصطلح يثير الإحباط تارة واللغط تارة أخرى، وكلاهما يذكرنا بما آلت إليه ثورات الربيع العربي؛ فيحبط عزيمة الشعب وإصراره.
لم تكن تلك الأخبار والعناوين والتصريحات سوى استغلال للظروف من أجل الوصول إلى أهداف دولية وإقليمية، أهمها القضاء على هيمنة حزب الله وسيطرة إيران على سوريا ولبنان، فعمل الإعلام الغربي على نشر فكرة فحواها أن الثورة اللبنانية هي فقط من أجل القضاء على حزب الله ونزع سلاحه، مما أغضب جمهور الحزب وتسبب في نشر الأحقاد المذهبية وانسحاب فئة لا يستهان بها من المشاركة في الثورة، بل والانقلاب ضدها؛ مما أحدث اختلافا في صفوف الثوار.
كذلك يستدعيني الآن الموقف الفرنسي بعد تفجير مرفأ بيروت، وكيف روّج له الإعلام الفرنسي، لدرجة جعلت الشعب يتعلق بأمل وحيد في القبض على المسؤولين ومحاسبتهم، ثم الزيارة العاجلة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمعاينة الأضرار ومتابعة الوضع عن كثب ومواساة الشعب ودعمه ماديا ومعنويا، قبل أن يعرج في طريقه على منزل الفنانة الكبيرة فيروز في زيارة خاصة!
فهطلت الأخبار جملة وفرادى، تبدأ بجملة مبهمة مكونة من 3 كلمات "صرَّح مصدر مسؤول"، ما يضلل المستمع والمشاهد والقارئ وتشوشه وتخلط عليه الأمور، لتنشر فكرة مفادها أن الحكومة ليست لديها فكرة أو دليل قاطع، وبالفعل اعتقد الشعب أن الرئيس الفرنسي قادم ومعه عصا موسى وسينقذ البلد ويكشف الفاعلين ويحاسبهم، مما جعلهم ينتظرونه طيلة سهرته في منزل الفنانة فيروز حتى خرج مودعا، وأعلن تصريحه في الصباح، وعاد أدراجه على وعد بالعودة بعد شهر، مهددا بعقاب المتسببين، وكما يقول المثل الشعبي "عالوعد يا كمون".
فلم تكن زيارته بهدف التعاطف ولا محاسبة الجاني ومعاقبة المتسبب والمهمل، ولا حتى لزيارة الفنانة القديرة، لم تكن إلا نوعا مستهلكا من الاستعراض الذي لا يفيد إلا مصالح الدولة الفرنسية وحلفائها وتعزيز سطوتها في منطقة شرق حوض البحر المتوسط وحسب.
وأنا هنا أرى أن وسائل الإعلام الغربية تمنح الفاسدين اللبنانيين حق البقاء من خلال أفعال ومفردات قوية تستخدم ببراعة للتضليل والتشويش.
هناك أداة أخرى تستخدم للتأثير على القارئ أو المشاهد أو المستمع، ألا وهي إعادة الأفكار أو الجمل ذاتها مرارا وتكرارا حتى يتجرعها المواطن ويستسيغها ويسلّم بها على أنها حقيقة راسخة. فتكرار الأخبار عن أن الثورة هدفها الأساسي هو القضاء على سلاح حزب الله أعطت لقاعدة عريضة من الشعب اللبناني مبررًا مقنعًا بأن الثورة ضد الطائفة الشيعية وضد مقدساتهم ومعتقدهم.
كما يتعمد الصحفيون الأجانب إيجاد العلل في الثورة اللبنانية، وتسليط الضوء عليها مع التعتيم على الإيجابيات لأنها تتعارض مع أهوائهم وأهدافهم بأن يظل الوضع في لبنان كما هو عليه، أيضا فهم يعتمدون أحيانا على مصادر غير موثوقة في جمع المعلومات كما حدث في اليوم التالي لاندلاع الثورة -الذي ذكرته آنفا- عندما قامت إحدى مراسلات نيويورك تايمز في بيروت بنشر خبر مفاده أن حشود المتظاهرين توجهت إلى الضاحية الجنوبية واقتحمت مكاتب لمسؤولي حزب الله باستخدام العنف، وهذا عار عن الصحة، فترسخ في عقول البعض أن الثورة هي ضد حزب الله ومناصرة للسلام مع العدو وممولة من الخارج، وهذا ما يُرّوج له حتى اللحظة للتعجيل بفدرالية لبنان وانقسامه داخليا.
أخيرا، سيستمر لبنان في مواجهة المحن والكوارث، وهذا ليس جديدا عليه، لكن لن تستطيع وسائل الإعلام الغربية كسره أو تقسيمه أو تشويه ثورته أبدًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.