تأثّثَ المشهد الثقافي العربي الإسلامي الحديث وبين شخصياته الفكرية والثقافية أسماء لا يكاد الناس يتجاوزون ما تمثّله من وزن وقيمة إذا ما تطرقوا للقدرات الثقافية والأدبية والفكرية للجلّة المرموقة من كوكبة أعلام العصر الحديث الذين صاغوا يوميات وصفحات العمل الفكري العربي الإسلامي المعاصر في فترة تأسيسية ربطت ما بين انفراط عقد حقبة كانت زاهية للعالم الإسلامي بانضوائه تحت راية واحدة، وبين عصر الدول الإسلامية الجديدة الذي أخذت واقعها ضمن التمثلات العالمية الحديثة وبعد انتهاء عصر الخلافة العثمانية.
ولقد اتفق من الناس عدد جمّ على أن شخصيات تضم طه حسين وسيد قطب والعقّاد والرافعي جديرة بأن تكون في مقدمة من يوليهم القراء أتمّ الإعجاب ويمنحونهم وافر التقدير ويسعدون بالمكث في سياقات التصفح لما جادت به أقلام سطرت بها أناملهم وإملاءاتهم عذب الكلام وزاهي الجُمل وبليغ التعابير وصقيل الألفاظ في نسج مخملي شكّل واجهة بديعة للإقلاعة الثقافية التي اضطلع بها أولئك وجعلوها همّا لأنفسهم ومسؤولية ظلت تلقي بظلالها على ما يسطرون ويكتبون.
وبالرغم مما شهدته الساحة الثقافية العربية -من بروز أسماء بأقلام ذوات شأن ومن كل الأجيال المعاصرة لأولئك النجوم وفي الحقب اللاحقة من بعدهم- فإن الصدارة تبقى لمستحقيها إذا ما ذكر الناس النصوص اليانعة الزاخرة لطه والنحت التركيبي البتّار لدى سيّد والنسق الكتابي الذي قُدَّ بعلم ومقدرة وتميّز لدى الرافعي والعقاد، والسبب في العموم الذي يشير إلى الفرادة التي تمتع بها هؤلاء في مؤلفاتهم؛ ربما هو ذلك الغَناء والعظمة والوفرة التي جادت عليهم بها دراستهم القرآن الكريم، فمما يجمع هؤلاء -الذين تفرقهم اتجاهاتهم ونزعاتهم ومدارسهم- هو الدخول إلى المجال العلمي بعد التزود بالقرآن الكريم؛ حيث تشير السير الذاتية لهم أجمعين إلى أنهم مروا من الكتاتيب ومدارس التعليم الأصلي فأتموا وأكملوا قراءة القرآن الكريم فشكل ذلك لهم رافدهم الخصب الذي ظل يمد كتباتهم ويفتح آفاقها ويجوّد مَلَكاتها حتى كانوا غُرّان زمانهم أدبا وكتابة.
يقول سيد عن نفسه "لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير، لا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه، ولكنني كنت أجد في نفسي منه شيئا.. تلك أيام.. ولقد مضت بذكرياتها.."؛ ذلكم ما قاله مفسر القرآن ذو الأدب الفياض.
وغير بعيد عن هذا يقول طه حسين -في كتابه "الأيام"- "أصبح صبينا شيخا وإن لم يتجاوز التاسعة؛ لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه. ودعاه أبوه شيخا، ودعته أمه شيخا"؛ حيث كان ذلك في إطار تحدثه عن حفظه القرآن في هذه المرحلة الباكرة من عمره، الأمر الذي يفسر بُعد الأصالة اللغوية، والذهنيةَ العربية العظيمة التي دأب طه حسين أن يصنع بها الطقس والأجواء العامة لكتابته فتجيء رائعة ماتعة.
وأما مؤلف كتاب "الإنسان في القرآن" -وهو العقاد- فتشير معلومات السيرة الذاتية الخاصة به إلى أنه أتم القرآن قبل العاشرة من العمر، ليبدأ مشواره الثقافي العام وقد وسع أثر القرآن ما بين جنبيه فكان مفكرا ومؤلفا لا يشق له غبار ويتمتع بملكات شحذها القرآن وبارك فصاحتها وعزز سليقتها فجاءت عظيمة تستند على أصل مكين.
ولن يكون الرافعي أقلّ هؤلاء إبداء لأثر دراسة القرآن بعهد الطفولة على الأدوار الثقافية والفكرية التي ستضع زمامها بيد الشخصية في قابل الزمان، إذ تفيد المعلومات بإكماله القرآن باكرا، ولقد تمتع بالمكانة التي سجلتها مؤلفاتها في مجال النثر التأليفي فكان ذا قلم عظيم استظل تحت راية القرآن فكتب ما تعاطاه الناس؛ مقدرين ومعجبين، وقدّمته كتاباته بوصفه أحد أرباب البيان المُمَجّدين.