شعار قسم مدونات

ذكرى مجزرة الكيماوي..

مجزرة الكيماوي بدوما.. ما الجديد هذه المرة؟
رأيت أطفالاً بلا أم، وأمًا بلا أطفال (الجزيرة)

 

لا تخنقوا الحقيقة فأرواحُنا تتنفس.. ها هو ناقوس أغسطس/آب يطرق من جديد وفاحت معه رائحة غاز الكيماوي البغيضة، فاحت ونكأت معها جراحا لا تندمل إطلاقا.

2018/08/21

لم يكن مجرد تاريخ قد مضى فحسب، بل إنه من أصعب وأعتى الأيام على الإطلاق، لم يكن هناك وقت لنعرف كم الساعة فكانت الرعونة مسيطرة على الجميع.

لم يمتنع النظام العنجهي عن إبادة شعبه السوري أبدا، بل كان يحارب الشعب بكل ما أوتي من قوة وفظاظة.

وأبى إلا أن يكون دكتاتورا مثل هتلر وستالين وموسوليني بل أكثر من ذلك، يمتلئ رأسي المنهك بكثير من الآهات التي يصعب ترجمتها إلى الواقع.

رأسي الذي تطفح فيه مئات المجازر اللامتناهية، التي يصعب تفسيرها لكثرة قساوتها وشظفها وصعوبتها.

ولأننا شهود على مجزرة (الكيماوي) فمن واجبنا الديني والإنساني أن نحييَّ ذكرى تلك المجزرة المروعة، التي لم يحاسب فاعلها -حتى اللحظة- وكررها عدة مرات من دون رادعٍ مع صمت دولي.

تقول ذاكرتي: بناء على مسترجعات ماضي "الكيماوي"  (2018/08/21)

  • تاريخ قضم بأيامه فلذات أكبادنا
  • تاريخ يعيد الموت إلينا ونحن أحياء
  • تاريخ سحق المئات من عوائلنا
  • تاريخ صنع اليتامى والأرامل والثكالى والشهداء في بضع لحظات

كم كنت قاسيا وأخطأت بحقنا أيها "الكيماوي"، أتحدث لأني كنت جزءا من الواقعة، إذ تتقهقر بي الذاكرة لمساء ذلك الأربعاء… حين كنت ممرضا في المشفى الميداني.

كان يوم مناوبتي، وما إن خلدت إلى النوم حتى استيقظت من غفوتي على تلك الفاجعة العظيمة.

وقفت صامتا، أحدق بعناية، لا أصدق ما أرى ولا أعرف ما جرى، بلحظات معدودة وطرفة عين، امتلأت ساحة الإسعاف بأشخاص مصابين مفجوعين، ثوان قليلة وتتزايد أعداد المصابين أكثر، إلى أن امتلأ ممر المشفى وساحته الخارجية التي تبلغ مساحتها ما يقارب المئة متر مربع.. والناس يفترشون الأرض، بين شهيد وناج، بين طفل وامرأة، بين شيخ وشاب، كنت أسير بينهم وأكاد أصعق من هول المشهد، كنت أضع راحة يدي على شفتاي اللتين ترتجفان وأضغط عليهما، شعرت بأن عيناي كادتا تنفجران من عظمة الفاجعة.

 

كنت حينما أريد أن أمشي أرفع قدمي التي ترتجف في ارتباك وحيرة ولا أعرف أين أضعها؟ أخاف أن أطأ جسدا جريحا أو أنتهك حرمة شهيد من كثرة المصابين والشهداء، كنت أرى الناس سكارى وما هم بسكارى.

رأيت أطفالا لم يدركوا الطفولة ترتديهم البراءة بعمر الأشهر، شاهدت وجوههم وشفاههم الزرقاء التي اشتمت الكيماوي ولم يصلها الأكسجين.

رأيت عروسا في فستان زفافها!

رأيت أطفالاً بلا أم، وأمًا بلا أطفال!

رأيت شيوخا وكهولا، رأيت شباباً وبنين!

سمعت ما لم تسمعه أذن وشاهدت ما لم تشاهده عين!

لم يرحموا أحدا أبدا، حتى الحجر اشتم رائحة الموت!

رأيت زملائي وأطبائي يستنشقون ويموتون!

رأيت بعيني ما لم تعرف أن تكتبه يداي!

رأيت ورأيت ورأيت..

 

كان ذلك اليوم العصيب أشبه بقنبلة هيروشيما، كان ليلا دامسا بالألم، وساكنا بالحقد، يعج بالموت ويمنع الحياة ويحتكر الهواء.

كان ذنبنا وجرمنا أننا نطقنا بكلمة (حرية)!

ما أقبح تلك النوائب التي سربلها القدر إيانا، كم كانت قاسية على قلوب أنقى من الندى!

كم كانت مجحفة بحق الأبرياء!

كم أحزنني أولئك الأطفال الذين استنشقوا غاز الموت، ولم يزفروه، وتلك العروس التي كانت -بفستان زفافها- تنتظر فرحها وزوجها فسبقه الموت مهرولا إليها.

 

أما أولئك الشبان والكهول والسيدات والمسعفين والذين غفل عنهم قلمي فناموا ولم يستيقظوا.

لم يكن هناك سوى تلك الدموع التي كانت تغبش رؤيتنا ونحن نسعف المظلومين، وتلك المشاعر التي ترجف أيدينا، والصرخات التي تكوي قلوبنا، والأطفال الذين جعلونا نشهق بالبكاء، والنساء اللاتي مزقن أفئدتنا، والشباب الذين كووا أكبادنا.

ذلك اليوم العصيب.. جعل عدونا يمزقنا بعنفوان وفن متقن، وما من أحد يمنعه من ذلك، كان ذلك المجرم يبدع وهو يؤلمنا، فكان الموت كالوحوش التي تقضم الزهور بعشوائية مطلقة فذة.

هل سيأتي اليوم الذي يحاسب فيه قاتلنا؟

حين تتلفظون وتتحدثون عن غوطة دمشق وخان شيخون وكل منطقة اختنقت بغاز الكمياوي، ابدؤوا بكلمة "الله أكبر"، وحينما تنتهون اختموا كلامكم بـ"السلام عليكم ورحمة الله" تماما كما تفعلون في الصلاة؛ لعل سلامكم يصل إلى أرواح تشكوا لربها ظلم البعيد وخذلان القريب..

وداعاً بلا لقاء أيها الحرب الكاوي، وسلام علينا يشبه سلام النار على سيدنا إبراهيم الخليل.. وسلام علينا يوم نموت ويوم نبعث أحياء.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.