تُواجه تونس الخضراء هذه الأيام أكبر اختبار وأصعب التحديات على الإطلاق في تاريخها منذ ثورة 2010 التي أطاحت بنظام بن علي وأسست دولة القانون والمؤسسات مُعلنة بذلك تجربة فريدة وغير مسبوقة في العالم العربي.
ففي إجراء غير متوقع أقال الرئيس التونسي قيس سعيد الأحد الماضي رئيس وأعضاء الحكومة وجمد عمل البرلمان لمدة شهر، في خطوة اعتبرتها معظم الأحزاب التونسية "غير دستورية"، وقد توصل البلد إلى "طريق مجهول"، بدون وجود حلول سحرية يملكها الرئيس الذي هو شريك في الحكم وسبق له أن عين بعض الوزراء في الحكومة المقالة.
لا شك أن أمام رئيس الجمهورية تحديات غير مسبوقة وهي أكبر منه، وربما اضطر لاتخاذها لكي يُنقذ الشعب من الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على المنظومة السياسية في تونس. فهناك العديد من الأولويات الضرورية المتمثلة في إيجاد موارد مالية لدفع الدين العام المستحق يوم 5 أغسطس/آب القادم والمقدر ببضع مليارات من الدولارات، وكذلك توفير الأجهزة واللقاحات المتعلقة بكورونا للمستشفيات، وقبل ذلك كله تشكيل حكومة من التكنوقراط لتقود البلد في المرحلة القادمة.
وتكمن أهمية هذا البلد العريق في ارتباطه التاريخي بثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها الأولى قبل عقد من الزمن من مدينة سيدي بوزيد التونسية على يد الشاب الجامعي مُحمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجًا على الفقر واضطهاد الأنظمة الاستبدادية العربية، وتحول بعد ذلك إلى زلزال مدمر وعواصف عاتية في أرجاء الوطن العربي قاطبة، مقتلعاً جذور الأنظمة الشمولية العربية ومفجرا ثورات الغضب الجماهيري في مختلف الميادين والحواضر العربية؛ تلك التي كانت تنتظر ساعة الصفر.
لقد هبَّت رياح التغيير على المدن العربية بلا استثناء؛ إذ خسر 4 من الزعماء العرب مقاعدهم الرئاسية تحت ضغط الشارع وهدير الجماهير قبل انقضاء عام 2011؛ ولكن أتت رياح الثورة المضادة بما لا تشتهي طموحات وأحلام الشعوب العربية، إذ انتشرت الحروب وانعدم الأمن والأمان في مُعظم الدول العربية التي نجحت في إسقاط تلك الأنظمة الحاكمة.
وكان الاستثناء الوحيد والنموذج الناجح لهذه الثورات هي تونس التي نجحت في وضع دستور للبلاد والفصل بين السلطات الثلاث، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة 3 مرات بعد الثورة الشعبية التي حققت طموحات الشعب، كان آخرها الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها أستاذ القانون الدستوري برئاسة الجمهورية قيس سعيد الذي ترشح كمستقل ودون تمويل من أي جهة، حاملاً شعاره المعروف "الشعب يريد"، محققاً ما نسبته 75% من أصوات الناخبين التونسيين.
بينما فاز بالانتخابات البرلمانية التي جرت 2019 حزب النهضة ذو التوجه الإسلامي ولكن بنسبة أقل عن 20%، أي 52 مقعدا فقط من 271 إجمالي المقاعد. ورغم المناخ الديمقراطي الذي انفردت به تونس عن غيرها من دول المنطقة، فإن وجود أحزاب كثيرة تشارك في الانتخابات ترتب عليه تشتت الأصوات وتوزعها بين هذه الأحزاب.
لهذا السبب فقد النظام الانتخابي قيمته وثقله؛ فخلال 3 انتخابات لم يستطيع أي حزب الفوز بتشكيل حكومة دون الاستعانة بالأحزاب الأخرى التي حققت مقاعد في البرلمان. لقد فشلت الحكومات المختلفة في هذا البلد العظيم لأسباب عديدة منها:
أولا: عدم وجود انسجام بين تركيبة الحكومات المتعاقبة التي تضم في العادة خليطاً من المستقلين وأعضاء الأحزاب التي تمثل الأكثرية النيابية؛ فقد اختلط الحابل بالنابل بين أعضاء الحكومة وكل واحد من هؤلاء يعمل لمصلحته الخاصة، وكذلك للانتماء الحزبي، سواء كان ذلك ينتمي لليسار أو اليمين أو يمثل التيار الإسلامي المعتدل المتمثل في حركة النهضة. فقد شهدت الأيام القليلة قبيل قرارات رئيس الجمهورية الأخيرة أعمال عنف وتظاهرات في تونس العاصمة، والعديد من المدن الأخرى تطالب باستقالة الحكومة وحل البرلمان كرد على الفشل في إدارة أزمة كورونا وتردي الأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
ثانيا: تونس من الدول التي تعاني من الأزمات الاقتصادية منذ عقود وتعتمد على قروض البنك الدولي ومساعدات بعض الدول العربية النفطية، ولكن أزمة كورونا العام الماضي 2020 قد جعلت من الاقتصاد التونسي ينكمش أكثر من 9%.
وقد ترتب على هذه الأزمة الاقتصادية وصول معدل البطالة إلى 18% بشكل عام و30% بين الشباب على وجه الخصوص، كما أن هناك من يتوقع وصول البلد إلى حافة الإفلاس، فقد وصل الدين الخارجي إلى نحو 30 مليار يورو، أي ما يزيد على 100% من الناتج المحلي الإجمالي لتونس.
ثالثا: نجاح تونس في تجربتها الديمقراطية قد يشجع الشعوب العربية على قيام ربيع آخر في مختلف الأقطار العربية، ذلك لكونها "أيقونة" الحراك السلمي لتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فالأسباب التي جعلت الشارع العربي يثور وينفجر على الأنظمة الحاكمة، ومحاولة كسر سلاسل الظلم والطغيان، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية المتمثلة في إعادة توزيع الثروة على المحرومين، ومنح المواطن العربي حياة كريمة وفرص عمل للشباب؛ لا تزال في صدارة المشهد العربي ولم تتحقق حتى الآن.
رابعا: هناك بعض الدول العربية التي تخشى من ظهور الربيع العربي من جديد وتعمل جاهدة طوال السنوات الماضية على إفشال التجربة التونسية الفريدة التي تجاوزات كل التحديات، وجنحت إلى التعددية والتداول السلمي للسلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع بدلاً من العنف وحمل السلاح للوصول إلى الحكم.
لهذا السبب تراقب بعض الدول العربية الغنية الوضع في تونس وكذلك الدول الأوروبية متأملة أن تتحول تونس إلى دولة فاشلة ونموذجا سيئا للتجربة الديمقراطية.
إنَّ من أسوأ السيناريوهات لتونس هو الانزلاق إلى مربع الفوضى والدخول في صراعات بين الرئاسة التي كسبت الجيش إلى صفها في مواجهة الشارع والأحزاب التي اعتبرت قرارات الرئيس غير قانونية وتحتاج للتصويب والمواجهة في الميادين لإبطالها والتصدي لها، في مقدمة هذه الأحزاب حركة النهضة التي تتولى رئاسة البرلمان.
يجب التذكير هنا بأن الجيش التونسي كان صمام الأمان لإنجاح الثورة التونسية في العقد الماضي، فقد انحاز هذا الجيش للشعب ونزل إلى الميادين والشوارع لحماية المتظاهرين العزل من الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، بينما وقفت معظم الجيوش العربية مع الحكام ضد تلك الشعوب المظلومة.
إن التضييق على وسائل الإعلام واقتحام مكاتب قناة الجزيرة في تونس العاصمة التي تعتبر "أيقونة" الربيع العربي منذ انطلاق هذا الحراك السلمي من المحيط إلى الخليج بدون إذن قضائي بعد يوم واحد من هذه الأحداث، قد كشف عن النوايا السيئة للذين يقفون خلف هذه الثورات المضادة التي تهدف بالدرجة الأولى إلى قمع الشعوب العربية المناضلة من اجل الحرية، والعمل خلف الكواليس بعيدا عن كاميرات التلفزيون المتمثلة في التغطية الإعلامية الموضوعية التي تعتمد على نقل الحقائق من الميدان.
وفي الختام، الأنظار تتجه الآن إلى الرباعي التونسي الذي فاز قبل بضع سنوات بجائزة نوبل للسلام، وفي مقدمتهم الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قاد بنجاح الحوار الوطني والمصالحة بين الأطراف السياسية التونسية عام 2014، فالمطلوب الآن هو جمع شمل رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان للوصول إلى حوار جاد لحل المشاكل العالقة بينهما والتعجيل بتشكيل حكومة من الخبراء المشهود لهم بالنزاهة والإخلاص والخبرة لإنقاذ هذا البلد من الأزمات الطاحنة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.