شعار قسم مدونات

مراجعة رواية "اسمه أحمد"..

blogs - أحمد الدقامسة
blogs - أحمد الدقامسة (الجزيرة)

 

"وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" [الصف: 6].

أحمد الدقامسة، بطلٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بطلٌ لم أعرفه، ولم أسمع باسمه مسبقاً، رجلٌ في زمنٍ قلتْ فيه الرجالات، يدعو إلى سبيل الله في الأرض، اقترعوا على اسمه ثلاثا وأراد الله أن يكون أحمدا، جُبل على حب الأرض وعشقها، شبَّ عن طوقه حاملاً بندقيته في قلبه وعلى عاتقه، في زمنٍ عُبِدَتْ فيه إسرائيل الغاصبة، كما عبدت الأصنام والتماثيل في عهد نبينا الصادق الأمين، الذي جاء داعيا إلى دين الله، دين آدم، ويعقوب، وعيسى، وموسى، الدين الحق الصواب، فهُوجِمَ وأُنْكِر وأبعد وأوذي في سبيل الحق ونصرة الدين!

وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هو أحمد الدقامسة، هذا السائر على الفطرة والجِبِلّة السليمة يُنْكرهُ قومه وأقوامٌ أخرى. كنت أقرأ في الصفحات الأولى من الرواية، ولا أرى أي شيء يناقض الفطرة السليمة، فها هو أحمد كأطفال فلسطين، يكره الصهاينة ويمقتهم حد الموت، ويحلم كما يحلم أطفالنا اليوم بمحاربة الصهاينة المغتصبين، ودحرهم عن بلادنا مطرودين مغبرين، شَعِثي الرؤوس يتنزه القمل في فرواتهم القذرة، يتكدس الجرب على جلودهم النجسة كما وفدوا إلى فلسطين.

يلتحق بالجيش العربيَّ؛ كرامةً لوطنه المحتل "فلسطين"، يتحين الفرصة كأسدٍ يتربص بالفريسة، وبعد أن يصيب الهدف، ويهتز منتشياً من لذة النصر، يجد نفسه أسير قفصٍ صنعته يد الإنسان، هذا المخلوق الأكثر وحشية على وجه البسيطة، يتخبط داخل القفص زائرا، ومزمجرا كالرعد، يستغرب هؤلاء البشر! ولسان حاله يقول: ألا تتقون الله؟ تعاقبونني على ما أمر الله به!

ومع هذا يُسحَبُ أحمد إلى غياهب السجون وظُلماتها، وتبدأ حفلة التعذيب الدامية، لا يشعر بألم سياطهم، فجرح قلبه النازف امتص جراح جسده، ينظر لجلاديه، مدهوشا واجما، يُخاطبُ نفسه قائلا: أَنتَقَلتُ وسافرتُ عبر الزمن ؟!! هذا ليس بالزمن الذي آلفه، أتراني إنسانا حجَريا، اقتنصتُ الزواحف السامة على عادة آبائي وأسلافي، ولكني أعاقب وأعذب الآن. قديما وكما حدثني والدي لم يكن يجرم من يدافع عن موطنه ومسكنه، حتى "الغربان" في البرية تدافع عن أعشاشها، وتعاقب الغراب المغتصب لعش آخر من جماعته، بل لا تبقي له ريشةً إذا ما سرق طعام فرخٍ صغير. أم أنني أتيت بدين الحنفاء الموحدين، بعد زمنٍ استراحت به الأرض من الطغاة الجاحدين، أي فرعون هذا الذي تجبر وحشد هؤلاء الأفاقين حوله، فأخذوا يسحلونني تارةً، ويصلبونني تارةُ، ويلهبون جسدي العاري بسياط أسيادهم العبيد تارةً أخرى!

إني والله، لفي زمنٍ الوحوش ذوي البذلات الرسمية، لفي زمن النجوم المنكسات رؤوسهن على أكتافهم، ينتظرن يداً تخلعهن من أسرهن، ليهبطن على أكتاف الأبطال يتزينّ ببهائهم وشجاعتهم، ويقتبسن من نورهم ضياء لهن.

تحقيقاتٌ كثيرة، وجلسات عذابٍ نفسية وأطباء؛ كي يتحققوا من صدق كلام أحمد! يكذّبون هذا البطل، بل يكذّبون ويتلونون للفطرة السليمة، لا يمكن أن يفعل فعلته "قتل المجندات الإسرائيليات السبع" إلا إذا كان مدفوعاً من حزبٍ أو جماعةٍ إسلامية! أو مريضا ومختلا عقليا -وما مختلٌ والله إلا هم، ناقضوا أنفسهم فناقضتهم- حتى انتهى بهم الأمر إلى عرافةٍ فصدَّقوها، وقبلوا ما يقوله على مضض.

ولكنها الفطرة السليمة التي أصبحت طفرةً في هذا الزمن السحيق والمخزي، ما زلتُ أنكر فعلتهم، ولا أقصد هنا تلك الوحشية والصلف الذي تلقاه أحمد، ولكن إنكارهم لبطولة كان يجب أن يتوج صاحبها، ويتخذ قدوة يُحتذَى بها.

كيف للضحية أن تعانق جلادها، وكيف للماشية أن تصادق الضباع النتنة، ألا يرون أخبار فلسطين؟ ألا يطالعون عدد الأسرى البواسل في سجون الاحتلال، بل عدد الأطفال والنساء الأُسارى؟ أيُنسى "أحمد مناصرة، مش متذكر"؟ ألا يرون أرواحنا الرخيصة في سبيل فلسطين الحبيبة، أو حصارنا الخانق في غزة، وتلك الاجتياحات البرية التي عرفناها صغارا؟ أننسى نحن الحروب ونيرانها، وليالينا المضاءة بلهيب صواريخهم، أم أنسى ركضي حافية القدمين في ممرات المشفى ليلة العيد لا أدري أهي عائلتي التي أفنيت عن آخرها قبل بضع دقائق من سقوط صاروخ الموت اللاهث نحو الحياة، أطالع الشهداء من النافذة، وأبصر الجرحى خوفا من أن تكون عائلتي، بعدما قطعت شبكات الاتصال، وأحمد الله أنها ليست عائلتي، وينهرني صوتٌ بداخلي ما هذا الفرح؟! إنها عائلة آخر أو أخرى أمسوا وحيدين، فأسقط رأسي خجلا من فرحي الحزين.

 

هدى غالية، تلك الطفلة الصغيرة التي فقدت عائلتها على شاطئ غزة، محمد الدرة المختبئ خلف والده، وترديدنا للمقطوعة الموسيقية التي غناها الملايين في العالم "على صوت الحجر"، أليس كل هؤلاء أحق بالاعتذار لعائلاتهم، ومساندة العالم لهم؟!

 

نهايةً، خرج أحمد من الظُلمات إلى النور يقصُ تجربته عبر سطور هذه الرواية، داعيا للصمود وعدم المهادنة مع عدو فلسطين، عدو الأمة، مفضلاً مرارة السجن، ووحشية ابن آدم، وتنكره لابن جلدته مراضاةً للصهاينة، مذكرا من نسيَ تاريخَ بني صهيون، وأنهم يشحذون الهمم كل ساعةٍ ووقتٍ لإبادتنا عن آخرنا، بينما العالم ينام في دعةٍ بالخارج، ويأكل مما تفضلت به الكائنات الزاحفةُ عليهم من فضلة أموالنا التي صُيِّرت أموالاً وخزائنَ لهم .

كل الكلمات لا تفيك حقك يا أحمد، ولا تفي راوي تجربتك القاسية الدكتور أيمن العتوم دونما خوفٍ أو هوادة، وبشجاعة هنا، المعركة لا تزال مستمرة، ولن تهدأ ما دام يخرج من أصلابنا أحمدون، حاملين نبوءة اخضرار الأرض وخصوبتها بعد جدبها وعقمها، مستردين قدسها وكل شبرٍ من ثراها الطاهر.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.