شعار قسم مدونات

هدر الأغذية والموت جوعًا!

سعوديون يحاولون التصدي لظاهرة هدر الطعام
سعوديون يحاولون التصدي لظاهرة هدر الطعام (الفرنسية)

 

من المفارقات في عالمنا المعاصر، الذي يدعي المدنية والتحضر، معاناة أكثر من مليار إنسان من الفقر والجوع، في الوقت الذي يتم فيه فقد أو تبديد ثلث مجموع الأغذية قبل أن يصل للمستهلكين، وهدر الأغذية يمثل في الوقت ذاته هدرًا للعمل والمياه والطاقة والأراضي والمستلزمات الأخرى التي استخدمت في إنتاجها.

هدر الأغذية وحقوق الإنسان

وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) "يُقصد بفقد الأغذية وهدر الأغذية ذلك النقص الذي يحدث لكميات الأغذية المعدَّة للاستهلاك البشري في المراحل اللاحقة من سلسلة التزويد. ويجري فقد الأغذية أو هدرها عبر السلسلة الغذائية كلها، من الإنتاج الأولي وحتى الاستهلاك في المنزل".

وهدر الأغذية يمثل اعتداءً صارخًا على حقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق الأصيل في الحياة وما يتعلق به من ضرورة الحصول على القدر الكافي من الطعام والشراب، وهدر الأغذية يفضح المنظمات والدول التي تتاجر بحقوق الإنسان وتزعم أنها تدافع عنها.

كما أنه يعكس جانبًا من الخلل بل ومن الظلم البين في توزيع الخيرات والثروات الطبيعية التي تسعى بعض الدول للاستيلاء عليها واحتكارها. وفي الوقت الذي يصاب فيه ملايين البشر بالسمنة، ويهدر فيه نحو ثلث الأغذية، يعاني أكثر من مليار نسمة من الفقر المدقع والجوع!

وهدر الأغذية مشكلة عالمية تتطلب تضافر الجهود لمعالجة شقين أساسيين وهما: الإفراط في استهلاك الأغذية وإهدارها، والشق الثاني التوزيع العادل للثروات والخيرات وضمان حد الكفاية وحصول جميع البشر على القدر الكافي من الطعام والشراب.

وحديث البعض عن شح الموارد الطبيعية وندرتها وعجزها عن تلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من البشر تكذبه الإحصائيات العالمية التي تظهر وبجلاء حجم السفه والإسراف في استهلاك الموارد الطبيعية في المناطق الغنية من العالم، والندرة والحرمان في مناطق أخرى، والله عز وجل يقول عن الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} سورة فصلت: 10.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به". صحيح الجامع: 5505.

الأسباب

أسباب هدر الأغذية في أنحاء العالم مختلفة ومتعددة، ويأتي في مقدمتها الجشع والطمع والرغبة في الاستئثار بالثروات والخيرات، والاستهلاك المفرط للأغذية في المجتمعات الغنية.

ومجتمعات الوفرة يتم فيها إهدار كميات كبيرة من الأغذية، وشرائح كبيرة في هذه المجتمعات لا تلقي بالًا لمعاناة ملايين الفقراء في العالم، وهدر الغذاء في هذه المجتمعات يتم بسفه وحماقة منقطعة النظير، فقد وصل السفه في عدد من الدول إلى هدر الأغذية بشكل ممنهج بل وفي أجواء احتفالية، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك مهرجانات هدر الغذاء التي تقام سنويًا في عدد من الدول الغربية والشرقية، ويقوم المشاركون فيها بإهدار ملايين الأطنان من الأغذية.

وهدر الأغذية في بعض الدول أصبح وسيلة من وسائل الاحتجاج على انخفاض أسعار المنتجات الغذائية وخفض الدعم الحكومي المقدم للمزارعين ومنتجي الحليب وغيرهم، فالمزارعون في بعض الدول يقومون بإتلاف مئات الأطنان من المحاصيل الزراعية احتجاجًا على انخفاض أسعارها، وفي دول الاتحاد الأوروبي قام مربو الماشية بسكب ملايين اللترات من الحليب على الأرض احتجاجًا على انخفاض الأسعار وخفض الدعم المقدم لهم.

إحصائيات مستفزة

إحصائيات هدر الأغذية في العالم مفزعة ومستفزة في نفس الوقت لأن آثارها لا تقتصر على الجانب المالي وحسب، لكنه يترك آثارا بيئية تتمثل في الإسراف في استخدام المواد الكيميائية المستخدمة في إنتاجه مثل الأسمدة والمبيدات الحشرية، وقود النقل، ناهيك عن أن الأطعمة الفاسدة تتسبب في انبعاث غاز الميثان وهو واحد من أشد غازات الدفيئة ضررًا وتأثيرًا في تغير المناخ، فغاز الميثان هو أقوى بـ 23 مرة من غاز ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي فللكثير من المواد الغذائية التي تلقى في مدافن النفايات مساهماتها الكبيرة في ظاهرة تغير المناخ.

 

وإحصائيات الأمم المتحدة المتعلقة بهدر الأغذية أظهرت النتائج الآتية:

  • يهدر أو يفقد ما يناهز ثلث الطعام المنتج للاستهلاك الآدمي كل عام حوالي 1.3 مليار طن.
  • يهدر الزبائن في الدول الغنية من الطعام 222 مليون طن (أي ما يقارب إنتاج منطقة جنوب الصحراء الكبرى الذي يقارب 230 مليون طن سنويًا).
  • تصل كمية الغذاء المهدر سنويًا إلى ما يوازي أكثر من نصف الكمية محاصيل الحبوب عالميًا (2.3 مليار طن عامي 2009 و2010).
  • فقدان الغذاء هو أحد أكبر عوامل إهدار الموارد، بما في ذلك المياه الأراضي، الطاقة، العمالة، رأس المال، بالإضافة إلى انبعاث الغازات الضارة مما يتسبب بالاحتباس الحراري وتغير المناخ.
  • في البلدان النامية، يفقد الغذاء في المراحل الأولية من عملية إنتاجه بسبب القيود المالية والإدارية والتقنية المفروضة على تقنيات الحصاد والتخزين ومرافق التبريد.
  • في البلدان التي تتمتع بمعدلات دخل متوسطة أو عالية، يفقد الغذاء في المراحل الأخيرة من سلسلة التوريد بسبب نمط الاستهلاك نفسه، على عكس الحاصل في البلدان النامية.
  • في الولايات المتحدة، ترمى نسبة 30% من الغذاء سنويًا (أي ما يصل قيمته إلى 48 مليار دولار).
  • يقدر أن نصف المياه المستخدمة في إنتاج هذا الغذاء تهدر أيضًا لأن الزراعة هي أكبر نشاط بشري مستهلك للمياه.
  • تهدر الأسر بالمملكة المتحدة ما يقدر بنحو 6.7 ملايين طن من الغذاء سنويا، أي حوالي 21.7 مليون طن من الغذاء المشترى، وهو ما يعني أن 32% من الطعام المشترى لا يؤكل، وتجمع السلطات المحلية معظم هذا (5.9 ملايين طن أو ما نسبته 88%) ويمكن تجنب إهدار 4.1 ملايين طن من ذلك الغذاء (أو ما نسبته 61%) لو توافرت إدارة أفضل له.
  • في الولايات المتحدة، تأتي النفايات العضوية في المرتبة الثانية من مكونات مدافن القمامة التي تعد أكبر مصدر لانبعاثات غاز الميثان.

المضار الاقتصادية

هدر الأغذية لا يضر بمصالح الفقراء في العالم فقط، ولكنه يضر أيضًا باقتصادات الكثير من الدول، فتكاليف هدر الطعام تبلغ نحو 750 مليار دولار سنويًا.

وهدر الأغذية سبب رئيس من أسباب استنزاف الموارد الطبيعية، وفي مقدمتها الماء، لأن الزراعة هي أكبر نشاط بشري مستهلك للمياه.

وفيه كذلك هدر وتضييع لموارد الطاقة التي تستخدم في إنتاج الطعام، والتي تستخدم أيضًا في التخلص من الأطعمة المهدرة أو إعادة تدويرها.

ومن المضار الاقتصادية لهدر الأغذية، واستهلاك كمية زائدة وكبيرة منها، تكاليف العلاج من السمنة والأمراض المرتبطة بها كالسكري والضغط، والتي تصل إلى مليارات في بعض الدول مثل الولايات المتحدة، فتكاليف علاج السمنة هناك تزيد على 150 مليار دولار سنويًا.

المضار الصحية والبيئية

هدر الأغذية واستهلاك كميات كبيرة منها له مخاطره الصحية والبيئية، والمخاطر الصحية تتمثل في السمنة والأمراض المرتبطة بها لدى الكثيرين. وفي المقابل معاناة أكثر من مليار نسمة من الجوع في أماكن كثيرة من العالم.

والمخاطر البيئية تتمثل في تأثير النفايات على الصحة العامة، وبخاصة نفايات الأطعمة والمشروبات لأنها سريعة التلف والتعفن، وتصدر عنها روائح كريهة ناهيك عن التلوث البصري.

وإنتاج النفايات له آثار سلبية على البيئة، والتخلص من النفايات له أيضًا آثار جانبية، وعملية التخلص من النفايات عملية معقدة تحتاج إلى تقنيات متطورة وتكاليف اقتصادية باهظة لا تتوفر للكثير من الدول.

العلاج

هدر الأغذية مشكلة متعددة الجوانب، وأخطر ما فيها تأثيرها المباشر والسلبي على الفقراء الذين يعانون من الجو،ع والذين تجاوز عددهم المليار نسمة.

 

وهناك جملة من الحلول المقترحة لمعالجة مشكلة هدر الأغذية ومنها:

أولًا: التوعية بأهمية خفض معدلات الاستهلاك بشكل عام، واستهلاك الطعام بشكل خاص، لحين الوصول إلى حالة من التوازن بين احتياجات الأفراد على مستوى العالم. وهذا التوازن يضمن حياة صحية خالية من الأمراض لمن يملكون الكثير من المال والطعام، ويضمن بقاء ملايين البشر على قيد الحياة.

ثانيًا: المبادرات الشخصية والجماعية التي تهدف إلى الحفاظ على الطعام وإيصاله للمحتاجين، ومنها مشروعات "حفظ النعمة" التي يتم فيها جمع الطعام المتبقي وإعداده لتوزيعه على الفقراء، ومنها مشروعات جمع المنتجات والأطعمة التي تتخلص منها المطاعم والفنادق أو الشركات لسبب أو لآخر، وإعدادها في شكل وجبات وتقديمها للفقراء.

ثالثًا: قيام الحكومات بدورها في سن التشريعات والقوانين التي تُجرم هدر الأغذية، وتلزم الشركات بتقديم فائض الأغذية لديها للمؤسسات الخيرية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.