شعار قسم مدونات

فعلها قيس سعيد..

الرئيس التونسي قيس سعيد يترأس اجتماعا طارئا للقيادات العسكرية و الأمنية
الرئيس التونسي قيس سعيد يترأس اجتماعا طارئا للقيادات العسكرية والأمنية (الجزيرة)

 

قبل أكثر من 14 شهرا كتبنا هنا متسائلين مقالا بعنوان (خلطة كنتاكي الإماراتية.. هل تطيح بالثورة التونسية؟) ووصفنا الخلطة التي لم تعد سرية للانقلاب على ثورات الربيع العربي والمتمثلة في قائمة الطعم، نعم الطعم وليس الطعام، للشعب المصري والذي آل به المقام إلى ما يعلمه حال الجميع، مهما حاول البعض التعايش معه أو حاول النظام تجميله، وتنبأنا بما سيحدث في تونس، لكننا لم نستطع أن نتصور أن اختيار الثورة في الانتخابات الرئاسية هو من سيجرع الثورة السم الزعاف، كنا بين خياري الثورة المضادة والثورة، وإن لم يكن خيار الثورة هو الأفضل، لكنه أفضل من عودة النظام البائد، وهو نفس الفخ الذي وقع فيه المصريون.

بروتس.. روبسبير.. وقيس سعيد

لخص الشاعر العظيم جبران خليل جبران أحاسيس الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عندما طعنه أقرب الأقربين له بقوله: (عندما أصابت الطعنة قلبي لم أمت … لكني مت لما رأيت مسددها).

وهي الصرخة التي أطلقها شكسبير على لسان بطله في مسرحية يوليوس قيصر.. (حتى أنت يا بروتس) لتبقى هذه الصرخة عنوانا للتعبير عن ألم الخيانة، لكن التاريخ شهد الكثير من الحوادث التي انقلب فيها الخِلّ على خليله، والمؤمن على عقيدته.

روبسبير.. واحد من قادة الثورة الفرنسية الذي عاش أزهى أيامها وشهد إسقاط الطاغية لويس السادس عشر وأسهم في تحرير الشعب من نهب الإقطاع لمقدراته واستعباده بشتى الصور، بعد أن هب الفرنسيون وثاروا على الملك الفاسد ورجاله.

روبسبير.. عضو الجمعية الوطنية أثناء حكم لويس السادس عشر، عرف عنه دفاعه عن حقوق الشعب وكان له موقف صارم من وجوب إعطاء الفرنسيين الذكور من العامة حق التصويت، ولما كان الرجل ينتمي لنادي اليعاقبة، فإنه اختلف مع الجيروند بعد أن أطاحت الثورة بالملك وتنازعوا السلطة حتى استقر الأمر إلى اليعاقبة بقيادة روبسبير.

تحول روبسبير -بعد أن أصبح قائدا- من المدافع عن الحريات والمؤمن بالثورة ومبادئها إلى رجل أشد دموية من لويس نفسه، وكان بطشه على شركاء الثورة أشد من بطشه بالعامة، ليذكر التاريخ روبسبير على أنه الوجه الأقبح للنظام البائد.

لم يكن انتخاب قيس سعيد إلا محاولة لإنقاذ الثورة التونسية التي تلقت ضربات من الشرق والغرب، وتهاون أبناؤها في تضميد جراحها بعد أن تنازعوا في وقت لا يحتمل النزاع، فكان الأمل في أن يكون قيس سعيد منقذا من خارج دائرة المتنافسين، وإن ظلوا، لكن الرجل أراد أن يكون روبسبيرا جديدا في ثورة حلم كل العرب أن تبقى وتتمدد ويروا ثمارها.

كلهم أخطؤوا والكل يدفع الثمن

الآن.. وبعد أن عطّل قيس سعيّد الدستور وحل البرلمان وأقال الحكومة، الكل يتباكى على الدستور، ويتمسك به، والكثير يؤكد على تأويلات سعيد الخاطئة والمنحازة لوجهة نظره، والبعض وصفه بتاجر القوانين، على غرار تجار الدين، فهذا يؤول لمصلحته وهؤلاء يفسرون ليجنوا المكاسب، ولما غابت المرجعية..

فـ"كل يدعي وصلا بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاكا".

ينص الفصل الـ80 من الدستور على أن "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب".

كما ينص الفصل ذاته على أن "مجلس نواب الشعب يعتبر في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة".

ولما كانت المحكمة الدستورية في تونس قد حلت ولم يُعَدْ تشكيلها، ويشترك في ذلك كل من حركة النهضة ونداء تونس اللذين تشاركا الحكم لمدة كانت تسمح بتشكيلها، كما استفاد سعيد الذي أراد من أول يوم الاستئثار بالسلطة وكانت مواقفه أسبق من رأيه في ذلك، فإن الرجل استغل الفراغ القانوني الموجود ليؤول كما يريد ويقصي كما يشاء.

وبعيدا عن أن تأويله خاطئ ويظهر ذلك جليا لطالب في كلية حقوق، ناهيك عن أصحاب العقول والنهى، فإن السياسيين لا يمكن أن يمرروا مثل هكذا تأويل، لكن الأمر أبعد من ذلك، الأمر مرتبط بأخطاء على الجميع الاعتراف بها كي يتم الاصطفاف لمواجهة الانقلاب، فالخلطة الإماراتية سحرية والأموال المنفقة ستحليها وتفرق الشركاء.

الثورات المضادة لها وصفة.. فماذا عن الثورات الشعبية؟

على نار هادئة تقوم الثورات المضادة بشيطنة التيار الثوري مستغلة حداثة عهده بالحكم، ومن ثم تجنيد الإعلام في مهمة تيئيس الشعب من الثورة حتى لو مرت عليها سنين، واستغلال ظرف ما، وفي حالة تونس تفشي فيروس كورونا، لإقناع الشعب بفشل الحكومة والأحزاب المولودة من رحم الثورة، وهو ما يصاحبه بالنتيجة التضييق الاقتصادي على البلاد بمنع الاستثمار والمعونات، ثم إدخال البلاد في دوامة الفوضى الأمنية بعد تشكيل مجاميع فوضوية تقوم بهذا الدور، وهو ما حدث بالأمس بطريقة فاشلة، ليخرج سعيد لإنقاذ المشهد الساقط بقرارات متسرعة، كمن يريد أن يزوج العروس قبل أن تظهر علامات الحمل عليها.

شراء ذمم قوات الأمن وبعض رجال الجيش لتمرير مخطط الفوضى وتأمين الانقلاب لاحقا، وهو ما شاهدناه باجتماع سعيد بقيادات الصف الثاني في الجيش والشرطة ليظهر على أنه مدعوم، لتخرج تظاهرات من رافضي الثورة وأصحاب المصالح ومن ثم إقناع العالم إعلاميا أن القرارات مؤيدة شعبيا، ثم تنصيب موال، يقوم بمهام السكرتارية للدول الراعية للانقلاب، هذا حرفيا ما تم ويتم الآن في تونس، لكن في المقابل أين خلطة الثورة لرد العدوان على إرادة الشعب؟

لقد كان رد فعل حركة النهضة والأحزاب أمس ضعيفا، واستدرجوا في جدل قانوني ودستوري وكأن ما يحدث لم يشخص على أنه انقلاب، فماذا يعني أن يعطل الدستور ويقيل الوزارة ويحل البرلمان، بل وينص على رفع الحصانة عن النواب، ما يعني نيته على ملاحقتهم، ثم يظهر بعد ذلك أنه اعتقل أو أوقف رئيس الوزراء، ألا يعد كل ذلك انقلابا؟!

حتى ولو ذهبنا إلى التفسيرات والتأويلات للفصل الـ80 من الدستور فإن استناد سعيد عليه يؤكد أن ما يحدث انقلاب، وإن كان اليوم، وأنا أكتب في بداية نهار 26 يوليو/تموز، بدأت تظهر الثورة علامات الجدية نحو التعامل مع الموقف، ولقد كان لكلمات الرئيس الثوري المنصف المرزوقي أثر على توصيف الأمر، وحسنا فعلت الأحزاب بالذهاب إلى البرلمان لعقد جلسة، وحسنا كان رد فعل الجيش الذي طوّق البرلمان، لكي يظهر حقيقة السطو على إرادة الشعب بقوة السلاح، إن تلك المواقف تثبت المتردد وتدفع المتكاسل، ولا أظن أن خروج العشرات أمام الجماهير الغاضبة لقصف الثوار بالحجارة سيثني أبناء الثورة عن عزمهم لاستردادها، لقد كانت عبير موسي تحشد بأموال الإمارات لشيطنة المجلس، فجاء دور عشرات من شاكلة عبير موسي لدعم الثورة المضادة.

انقلاب تونسي بنكهة مصرية.. لكن الشعوب تتعلم

حاول أحدهم وهو يحمل درجة الدكتوراة أن يفصل بين ما حدث في 3 يوليو/تموز 2013 في مصر، وبين الحادث الآن في تونس، مستحضرا كل مفردات التقعر والفلسفات وإدخال حوادث مغلوطة، لا أعرف عن عمد أو عن جهل بالشأنين المصري والتونسي، فالرجل خرج علينا محللا للشأن الأميركي -وهو من يعيش هناك منذ زمن- لكنه شرد وغرد بعيدا عندما حاول الفصل بين المشهدين المصري والتونسي، ولا أعرف إن كان يريد من ذلك شيئا في نفسه، نعرف أنه معاد للإسلاميين، فهل يعقل أن تضيع دولة، ويقتل ويعتقل العشرات إثر قرارات لا يمكن علميا إلا أن توصف بأنها انقلاب من أجل تلك العداوة؟!

لا يمكن أن أنكر توجهاتي، لكني كإسلامي، أو هكذا يحسبونني، منحاز أكثر للشعوب ولثوراتها، ولطالما كتبت أن أعظم نشاط إنساني على وجه البسيطة هو الفعل الثوري، وأن أنقى البشر من يقومون به، وإن خسارة تجربة حضارية إنسانية كالثورة التونسية أعظم عندي من أي شخص طالما لا يؤمن بالإنسان، بفعله الراقي المكفول بالمواثيق والأديان في الثورة من أجل إرساء العدالة وانتزاع الحقوق من أجل حياة كريمة يستطيع من خلالها خدمة وطنه ويبدع في ذلك.

لا فرق بين ما حدث في 3 يوليو/تموز المشؤوم بمصر وما حدث ليلة 25 يوليو/تموز في تونس، فتغيير البذة العسكرية إلى مدنية لن يغير من الأمر شيئا ولن يقنع الناس بأنه ليس انقلابا، فتجارب الانقلابات البيضاء كثيرة، بل ويقوم عليها رجال قانون في بعض الأحيان من محاكم عليا في بعض البلاد.

ويبقى الرهان الأخير على الشعب التونسي الواعي الذي قرأ المشهد في مصر، وعرف أن الدكتاتورية وسرقة الإرادة الشعبية يتبعهما احتضان لأعواد المشانق، وسعيّد بتكوينه النفسي أقرب ما يكون إلى السعي في هذا الطريق، وعندما تحركه شياطين الإنس من دول المنطقة فإن الدماء لن تتوقف والردة قريبة إلى ما قبل عصر لويس السادس عشر على يد روبسبير!

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.