يعاني التفكير بالعالم العربي "أزمةَ منهجٍ وأداءٍ" تتجاذبها أسباب متعددة، يرتد بعضها إلى أحداث التاريخ وكَلَاكِلِهِا، ويَسْتَكِنُّ بعضها بين جنبات النفوس وجِبِلّاتها، ويترسخ بعضها من مخرجات المناهج التعليمية وعَاهَاتِها، ويستحكم كثير منها من استبداد الأنظمة وإكراهاتها، وفَرَض بعضها تقديس التقاليد الاجتماعية البالية وإعظامها، فَرُزِءَ التفكير بهاته المعاول حتى صار صاحبه في كثير من الأحيان محلا للسخرية أو مَثَارا للريبة والتهمة المزرية.
إن منحنى التفكير في مجتمعاتنا العربية يسري بأثر تراجعي تنازلي: من الحاضر إلى الماضي -جموح ونكوص نحو الماضي- يتجلى ذلك في التركيز على ابتعاث الأحقاد والصراعات التاريخية واستحضارها بإلحاح، وجعلها حكما على الحاضر وحتى المستقبل، ومع أن التراث فيه الكثير من الجماليات، وبَعْضٌ منه باعث على الافتخار، وقمين بالاقتداء والانتصار، إلا أن محط أنظارنا ومهوى نفوسنا ينجذب غالبا إلى بؤر الخلاف فيُحْيِيهَا، ونيران الفرقة والاصطفاف فيُغَذِّيها.
أما منحى التفكير عند المجتمعات المتقدمة، التي يمثل الفكر بالنسبة لها عنصرا حيويا ووظيفة وجودية، فيسري بأثر تقدمي استشرافي: من الحاضر إلى المستقبل -تطلع وجنوح نحو المستقبل- من خلال الحرص على استِنْبَاتِ الأفكار البديعة، وهندسة المستقبل بالخيال العلمي والذكاء الخارق والإنتاج المعرفي المتواصل، فالماضي بالنسبة لها هو تراكم للخبرات التي تصقل الفكر وتهذبه، وتصحح المسار وتُقَوِّمه، ومع ذلك يبقى التاريخ مرتبطا بلوازم السياق الزماني والمكاني، فلا يُستصحب منه في الحاضر سوى النافع الدافع، نحو الارتقاء بالواقع.
وبسبب التباين في نوعية التفكير بين منهجية الاستنزاف والاستشراف، فإن مسارات المجتمعات تتباين والفجوة بينهما تتزايل، بين من ترتكس تنازليا، ومن ترتقي تصاعديا، فالأولى ترجع القهقرى في الوقت الذي تتقدم فيه الثانية وتَقْوَى، لأن الأولى تعيش زمنا مضى (الانشغال بصراعات الماضي) أما الثانية فتعيش زمنا مستقبلا (الاشتغال بتوقعات المستقبل) وبذلك تتسع الفجوة الزمنية بين المجتمعين (الزمن الحضاري) مع كونهما يعيشان (زمنا كونيا) واحدا.
فالماضي ليس سوى مستودع نُجَمِّعُ فيه الأدوات والمواد والمعدات والآلات التي نحتاجها لنبني فوق المساحات الواسعة الجديدة معمارا حضاريا بديعا، آخذين من المستودع ما نحتاجه من وسائل للإسناد والإمداد، من دون أن نتخذه مأوى للخلود أو ملجأً للركود!
وفي هذا السياق يؤكد المفكر الجزائري مالك بن نبي في الصفحة 60 من كتابه "وجهة العالم الإسلامي" على وجود علاقة "ارتباط مَرَضِيٍّ بالماضي" لدى إنسان ما بعد الموحدين، تجعل من حركة الأفكار في حالة انتكاس مستديم إلى الماضي بدل التَّشَوُّفِ إلى المستقبل، حيث يقول في هذا الشأن "فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت "ثقافة أثرية" لا يتجه العمل الفكري فيها إلى الأمام بل ينكص إلى الوراء، وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سببا في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل، وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنها قد أصبحت متنفسا له".
وهذا ما دفع مالك بن نبي إلى عدم الوقوف على أطلال المشكلة الحضارية واصفا لها بل أوغل في البحث عن "مسبباتها الخفية" فيما وراء حجاب "الأسباب الظاهرية" فأبدعت قريحته أفكارا فذة ونحتت مصطلحات جديدة من قبيل: القابلية للاستعمار، الفعالية الفكرية، العقل التطبيقي، الأفكار القاتلة والميتة، الأفكار الموضوعة والمصنوعة، الأفكار المخذولة، البناء والتكديس، الاغتراب الزماني والمكاني، النزعة الذرية، الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية.. إلخ. وفي سياق تحديده لأصل مشكلة الاستعمار يقول ".. إذ يحاول زعماء الحركة الحديثة أن يلصقوا أسباب عطلهم بالاستعمار، ولكن ذلك ليس ضربا من التعلل، إذ يقصدون من ذلك الهرب من مسؤوليتهم الحقيقية، ولقد شاركهم في تعللهم أيضا دعاة الحركة الإصلاحية، أولئك الذين لم يبحثوا مطلقا عن الأسباب الداخلية لعجزهم، بل اكتفوا بإسناد التبعية إلى السلطة الأجنبية، فالتياران كلاهما لا يهتمان بعلاج نقائصهما".
إن مالكا يرجع أسباب الانتكاسة الفكرية في المجتمعات المسلمة إلى عوامل ذاتية أكثر منها خارجية، فنمطية التفكير السائدة المتسمة بالجمود ومعاكسة السنن الكونية، والميل إلى التقديس والتقليد والتكديس بدل التقعيد والتجديد والتأسيس، هي سمات تحتاج إلى تغيير جذري للأنفس وانقلاب ثوري جامح على الأصول المغذية لحالة الوهن الحضاري.
فكثيرا ما نقف في تحليلاتنا الفكرية للظواهر والاختلالات عند الأسباب الظاهرة والمباشرة، ونَغْفَلُ عن تأثير الأدواء الخفية التي تمثل المصادر المغذية للأسباب التي بدورها تحيل إلى النتائج نفسها، فالقضاء على أسباب المشكلة وترك أدوائها سيؤدي إلى إعادة إنتاجها مرات عديدة في صور ومراسيم جديدة، فسبب وهن الجسم هو المرض وسبب المرض هو الفيروس الذي يشكل الداء، فالقضاء على المرض دون دائه كفيل بعودته، وفي هذا قيل: إذا أردت القضاء على البعوض فجفف المستنقعات!
إن أغلب العلل الفكرية والحضارية المسببة لحالة الوهن الحضاري، في مجتمعاتنا العربية، مردها إلى علل ثلاث: التطرف، التخلف، التزلف. وقد نسميها: علل الارتكاس الحضاري.
- فالتطرف: هو الانزياح نحو أحد طرفي القصد (الإفراط أو التفريط) متدثرا بدثار العُجب والتعصب، وهو داء مفسد للفكر.
- والتخلف: هو عدم امتلاك آلة التحصيل المعرفي التي تدفع بالإرادة والعقل نحو البناء والارتقاء وصناعة الفعل الحضاري، وهو داء مفسد للعقل.
- أما التزلف: فهو يشير إلى حالة نفسية مرضية تفضي إلى استمراء الباطل واستطعام الهوان ليصبح الوهن لازما من لوازم الشخصية، وهو داء مفسد للسلوك (الأخلاق).
والخَلَاصُ من هذه العلل ينطلق من بناء أنظمة ثلاثة للبناء الحضاري وهي: نظام الفكر ونظام العقل ونظام السلوك.
- فالفكر: يُغذَّى بالمنهج العلمي والمنطق الرياضي الذي يقوّم الرؤى ويسدد البصائر.
- والعقل: يغذى بالمعرفة والعلم اللذين هما أساس تطوير المدركات الذهنية والعمليات العقلية كالتحليل والتركيب والاستنباط والاستقراء والاستنتاج، وهو ما يؤسس لسلامة النظر وقوة وجودة الفكر والتميز الإبداعي.
- والسلوك: يغذى بالقيم والأفكار الإيجابية الموجهة للنفوس نحو التغيير، التي تنمي الدافعية نحو الإنجاز الحضاري.
وهذا بدوره ينتج 3 سمات محورية في عملية البناء الحضاري وهي:
- الوسطية: وتعبر عن الاتزان الانفعالي والاعتدال الفكري في المعالجة والحكم والتحليل، والتزام العدل وصوابية القرار، وهي آية كمال الفكر "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة-143)
- العلمية: وتعبر عن القوة المعرفية والدقة في ربط الظواهر بأسبابها، وإناطة الأحكام بعللها ومقاصدها، وهي آية كمال العقل "ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما" (النمل-79)
- الرُّشْدِيَّة: وتعبر عن حالة انتظام سلم القيم لدى الفرد والمجتمع، ورجحان القانون على العاطفة والفاضل على المفضول وتوازن منظومة الواجبات والحقوق بمعيار الكفاءة والعدل والمحاسبة والمسؤولية، وهي آية كمال السلوك "وهيّئ لنا من أمرنا رشدا" (الكهف-10)
ولا يضطلع ببناء هذه الأنظمة الحضارية الثلاث وترقيتها داخل أي مجتمع إلا "نظام التعليم" إيجادا وإعدادا وإسنادا.
فَعَلّمْ مَا اسْتَطَعْتَ لَعَلَّ جِيلًا .. سَيَأْتِي يُحْدِثُ العَجَبَ العُجَابَا