في كل طفل رغبة جامحة في الكبر أو يبدو كذلك، لا يرغب بالطفولة لأنها تشعره بالضعف والحاجة لغيره.
إن ذهب الطفل للصلاة كما يفعل الكبار جاء أحدهم من خلفه ودفعه إلى الوراء وأخذ مكانه بكل بساطة كما لو كان الطفل يعيش على هامش الحياة على الرغم من التزامه في الصلاة وحضوره المبكر، لكن كل ذلك لم يشفع له أمام سلطة الكبار وقهرهم ونرجسيتهم.
إن أحسن الطفل في العمل وبدرت منه أعمال خير وأظهر قدرا كبيرا من التسامح تجاه أقرانه أو أهله وفاض على أهله بالحب والعطاء تجاهلوا محاسنه، وإن أساء المعاملة تكالبوا عليه وتناسوا مزاياه وتذكروا عيوبه وأعادوها على مسامعه في كل حين.
لا أقول إن الأطفال دوما على حق وأبرياء، وإنهم مجرد ضحايا لسوء المعاملة ولسلطة الآخرين، هم كذلك في كثير من الحالات كما هو حال الطفل المغلوب على أمره في الصلاة، هو ضحية للتهميش والازدراء، وتنتج عن ذلك أعمال فوضوية لا تحمد عقباها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
البعض منهم أشقياء بعوامل جينية وطفرات عشوائية، ليسوا ضحايا، قد يكونون جلادين، وليكن الله في عون المربي على ذلك لا يجد سوى الصبر الجميل، إضافة إلى عوامل البيئة وما تفرزه من أفراد متنوعين في قدراتهم تجدهم لا يجدون ذواتهم واحتياجاتهم، يضاف إلى ذلك التنشئة والتعليم والفقر والحرمان والمستوى الاقتصادي للفرد والعائلة، كل تلك عوامل تؤثر في سلوك الأطفال ليكونوا ضحايا لقمع الكبار واستفزازهم، ولنعد الآن إلى حديثنا الأول ولنحاول الحديث بشكل علمي.
- لماذا يرغب الطفل بشدة في النمو ولا يطيق طفولته؟
- لماذا يرغب في الصيام رغم المشقة والعناء؟
- لماذا يسعى جاهدا لتقليد الكبار في سلوكهم وأفعالهم؟
والجواب: يرغب الطفل في ذلك ليس لأن الطفولة قاسية أو تعتريها لحظات من الفقر والحرمان، ليس ذلك الدافع الرئيسي وراء ظهوره بمظهر الكبير أو تظاهره بذلك، بل لأن في الطفولة ضعفا وإذلالا لكرامته، وهذا الضعف غير محبب للطفل.
لأنهم يسمعون كثيرا كلمات، مثل "أنتم أطفال" لا يجوز لكم الحديث في شيء، لا يجوز لكم عمل ما يعمله الكبار.
هذا الضعف في السلطة لدى الطفل يولد فيه رغبة جامحة للانتقام من الكبار، وتزداد أنانيته وتعلقه بالأشياء وتملكها.
هذا الضعف يؤلم الطفل ألما كبيرا لا يستهان به قد ينتج عنه سلوك عدواني نحو الكبار دون استثناء.
لم يكن فرويد على صواب وبالغ كثيرا في تصوره عن الأطفال، فهو يرى في نظرياته وأبحاثه أن الأطفال تحركهم بواعثهم ورغباتهم الجنسية، حتى تعلق الطفل بوالدته في سنواته الأولى لا يخلو من تصور جنسي للطفل وتعلقه بثديها منافسة لسلطة أبيه.
حتى الفتاة تظهر حبا أكثر تجاه والدها عوضا عن والدتها، وهذا التصور لا يخلو من تصور رومانسي عن رجلها في المستقبل، والحقيقة ليست كذلك.
العديد من الأبحاث والدراسات تؤكد أن ما ذهب إليه فرويد حول الطفل وتعلقه بثدي أمه لدوافع جنسية مجرد خيال وتصور بعيد عن الواقع.
لا تحرك الطفل في سنواته الأولى دوافعه الجنسية، بل دوافع "الأنا"، ودوافع القوة والتخلص من الضعف، والرغبة الجامحة في محو كل ما يصغره.
إنه يريد أن يشعر أنه كبير، وله قرار وسلطة، لا يطيق معاملته معاملة الصغار.
ومن خلال ملاحظاتي الشخصية للأطفال وسلوكهم الذاتي من خلال عملي في محل لألعاب الأطفال فإنهم جميعا لا يرغبون بشراء ما يشتريه من هو أصغر منهم سنا، إنهم يودون التخلص من كل ما يشعرهم بالطفولة والضعف، إن دوافهم نحو القوة تظهر جلية وقد تتحول إلى سلوك عدوني لكل ما هو كبير.
البعض يطلب من أولاده عمل الصالحات وهو لا يعملها كالقراءة والنوم مبكرا والمذاكرة، وتجده ليلا مع نهار يقدم لأبنائه النصائح والمواعظ، ثم يتفاجأ تماما، إذ يجدهم يعملون خلاف ما ينصحهم، ثم يتساءل بدهشة: لماذا يصدر من الابن سلوك بخلاف ما وعظته ونصحته؟ وقد يزداد الأمر سوءا وينهال عليه بالضرب كسلوك عدواني.
والحق أن الأطفال الصغار لا يتأثرون بالنصائح ولا المواعظ، إنهم يتأثرون فقط بكل ما هو حسي وتجريبي.
الطفل يحس بالسعادة والألم والمرض والكآبة، يشعر باللذة الحسية ولا يدرك كثيرا الكلمات ولا المواعظ والنصائح المجردة.
إذا أردت التأثير في سلوكه فاجعله يحس بما تقوم بعمله، إنه يتأثر بكل ما هو تجريبي محسوس، لا يحركه الوعظ المجرد ولا النصائح.
إنه يجيد التقليد، فإن رآك تقرأ فستجده يقرأ، وإن رآك تتعلم وتحب التعلم فستجده كذلك، إن كنت تنام مبكرا فستجده ينام مبكرا.
لا جدوى من التحايل على الأطفال، فانفصال الفكرة المثالية عن السلوك الواقعي ينتج تناقضات شتى في ذهن الطفل لا يحسن تفسيرها، ويشعر أنها أكاذيب لا يجب سماعها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.