شعار قسم مدونات

لا يخلو كتاب من فائدة..

دخول النساء في مجال الكتابة ونشر الكتب
الروايات كتب موجهة للجميع لا تقتصر قراءتها على فئة معينة من القراء (شترستوك)

 

هناك انقسام في الآراء إزاء أهمية الروايات وتأثيرها، فكثيرون يرون أن الرواية مجرد وسيلة للتسلية، لا تبني ثقافة أو أسلوبا. في المقابل يرى آخرون أن الروايات، كباقي الكتب، لها فوائدها؛ إذ يمكنها أن تساعد القارئ على تحسين و إثراء مخزونه اللغوي، كما يمكنها أن تساعده على استكشاف عوالم جديدة. وبين هذه الآراء المتقابلة، هناك من يرى أن الفرق الوحيد بين الروايات والكتب الأخرى يتجلى في سهولة الأسلوب وبساطته، فالروايات أسهل من الكتب الأخرى.

 

ولكن رغم اختلاف وجهات النظر ورغم عدّ نسبة كبيرة من القراء الروايات كتبا لا تبني ثقافة، فإن الإقبال على قراءة هذا النوع من الكتب في ازدياد (بالمقارنة مع الكتب الأخرى).

نظرة بعض الكُتّاب إلى الروايات تبدو أكثر اختلافا وغموضا أو تناقضا من آراء القراء، ولعل أكثر المواقف التي تعبر عن ذلك، ما ذكره كارلوس ليسانكو في كتابه (الكاتب والآخر)، إذ يقول "أنا لا أقرا الروايات، لا أستطيع قراءتها، لا أرى الحكاية بل أرى الطريقة التي تعرض بها. إن على رواية ما ألا تقدم حكاية فحسب، وإنما تقترح ما هو جديد في فن الرواية، ولهذا لا أقرا الرواية. ثمة غرور في القول إني لا أقرأ الروايات، في حين إنني أكتبها، ولكن الواقع هو أنني لا أقدر على قراءة الروايات".

كيف يمكن تفسير هذا التناقض أو الاختلاف بين الآراء و الممارسة؟ ولماذا تعدّ الروايات كتبا سهلة؟

 

الروايات كتب موجهة للجميع، لا تقتصر قراءتها على فئة معينة من القراء، ولا تتطلب نوعا من التخصص من أجل استيعاب مضمونها؛ إنها لا تبني حدودا فاصلة، بل تكسرها. وأهم ما يميزها هو القدرة على التحرر من قيود أو قواعد الواقع وعدم الالتزام بها، لذلك يمكن أن يكون كل مضمونها خيالا أو تخيلات.

ولكن هذا لا يعني أن جاذبية الرواية ونجاحها مرتبط بتوفر شرطي الخيال وعدم التزام ضوابط معينة، فهناك كثير من الروايات حققت نسبا عالية من القراءة ولم تتأثر جاذبيتها، رغم تطرقها إلى أحداث أو شخصيات واقعية، في حدود القواعد والضوابط.

و يبقى، في نظر كثير من القراء، هذا النوع الأخير من الروايات (التي تتميز بالواقعية والتزام الضوابط) أكثر أهمية وتأثيرا لأنها تقدم قدوات حية (يمكن الاقتداء بها) وسلوكات يمكن تطبيقها على أرض الواقع، عكس النوع الآخر من الروايات التي تقدم مضامين أكثر مثالية أو تطرفا، وذلك قد يؤدي إلى حالة من الإحباط والعجز لدى القارئ، لذلك يقول لسانكو إن الرواية اليوم هي الواقع.

 

إن الروايات لا تسعى إلى تقديم أفكار كثيرة أو الدفاع عنها بحجج مباشرة، فيمكن أن يكون محور رواية بأكملها فكرة واحدة، ولكن هذه الفكرة لا تقدم مباشرة إلى القارئ، بل تقسم وتقدم في أحداث مترابطة، عبر أشخاص وعلاقات وفي أماكن مختلفة، وبواسطة أسلوب يغلب عليه طابع السرد والوصف والحوار.

كل ما سبق ذكره من مميزات يجعل الرواية مكانا ومنبعا للمشاعر، ينفجر منها كم هائل من العواطف الإيجابية. وهو ما يجعلها ملاذا آمنا يمكن أن يهرب إليه القارئ من جفاف الواقع وفراغ العالم من العواطف والحب. فقد طغت على الإنسان الواقعية والمادية لتخنق الرومانسية داخله، مما أدى إلى ذوبان القيم والتمركز حول الذات ومحاولة بلوغ الغايات بغض النظر عن الأسلوب، فالرومانسية من مستلزمات الشخصية السوية، كما يقول الدكتور أحمد عكاشة في كتابه (ثقوب في الضمير).

 

إن عالم اليوم هو عالم الفراغ، كما وصفه كينيث روبرت في كتابه عن الفراغ، فنمط الحياة المعاصرة يولد مللا يوميا يتوق الإنسان إلى التحرر منه. وقد حدد علماء الاجتماع وقت الفراغ بخواص معينة عدّوها أساسا لتحديد مفهومه لكن هناك اختلافا وتباينا في النظرة إليه، وهل هو الوقت الحر المطلق أم إنه أي فرصة تتحرر فيها الذات من أعباء العمل أم هو كل شيء خارج عن الالتزامات والنشاطات الاجتماعية عموما؟

 

إن القراءة من أجل التسلية وملء الفراغ هي القراءة الأكثر شيوعا بين الناس، وتثبت بعض الإحصاءات أن نحو 80% من القراء يتوجهون إلى القراءة من أجل التسلية، فهناك أعداد هائلة من الناس تتجه إلى قراءة القصص والروايات والمسرحيات والجرائد، والسبب في هذه الوضعية أن القراءة من أجل التسلية لا تحتاج إلى مهارة، ولا تكلف جهدا يذكر، كما يقول عبد الكريم بكار في كتابه (القراءة المثمرة). ومع هذا فإن القراءة من أجل التسلية لا تخلو من فائدة، فالقارئ قد يتخلص بها من الفراغ الذي يؤدي إلى الشعور بالتفاهة، وقد يشغل بها عن ملء فراغه بأشياء ضارة، وهي فضلا عن هذا قد تكون علاجا لبعض الأمراض العصبية، فالخرف الذي يصيب كبار السن يعالج اليوم بالقراءة إلى جانب علاجات أخرى، كما أن في القراءة علاجا جيدا لمرض التمركز الشديد حول الذات.

 

إن الروايات مفيدة في معالجة الكآبة، كما يرى ألبرتو مانغويل في كتابه (تاريخ القراءة)، إذ يقول "كنت أنظر دوما إلى الروايات كمنتوج تافه، إلا أنني اكتشفت أخيرا أنها مفيدة في علاج الكآبة".

والاكتئاب لدى بعض علماء النفس مرتبط بالحاجة إلى الحب؛ إنه صرخة بحث عن الحب، تميزه خاصية رئيسة تتجلى في العجز عن تحقيق احتياجات أساسية كالحاجة إلى الحب والتقدير والأمان. فالإنسان مدمن للحب، كما يقول فينكل، وقد عانى العباقرة والمشاهير درجات حادّة من التقلب الوجداني، كان الاكتئاب أحد ملامحها.

ويقسم الاكتئاب إلى 4 أنواع، النوع الأول يسمى الاكتئاب الاستجابي، وهو استجابة تصيب أغلبية الناس مدة قصيرة، تثيرها خبرة مؤلمة، والنوع الثاني هو الاكتئاب المرضي، يتميز بحدة أكثر، ويستمر مدة طويلة، ويعوق أداء الأنشطة والواجبات المعتادة (أسبابه غير واضحة)، والاكتئاب العصابي هو النوع الثالث، ويتميز ببروز مشاعر عصابية كالقلق، والخوف من المستقبل ومشاعر التهديد والإحباط، وأخيرا نوع يسمى الاكتئاب الموسمي، يقتصر ظهوره على بعض أشهر السنة.

إن الكتب المقروءة تعكس ظروف القارئ وحاجاته، ففي داخل كل إنسان حاجات ترفض الفراغ والفوضى. هذه الحاجات تحرك وتدفع السلوك والعقل إلى ما تتطلع إليه، إنها تتحكم في اختياراته. وفي أثناء القراءة تعمل هذه الحاجات بوصفها جهاز رادار يرصد ويتوقف عند كل كلمة أو فكرة قابلة لملء أو إشباع حاجة أو تساعد على ذلك، فيبتلعها ويخزنها على شكل خبرة أو تنتظم في شكل سلوك أو فعل.

 

إن الإنسان ما لم يشعر بأن القراءة ترتبط بحاجة من حاجاته الأساسية فإنه لن يمارسها ولن يحرص عليها، كما عبر عن ذلك ساجد العبدلي في كتابه (القراءة الذكية).

وتعرف الحاجة بأنها إحدى الدوافع النفسية التي تدفع الإنسان إلى القيام بسلوك ما، تتضمن معنى التحريك أو الدافع. ويرى بعض الباحثين أنه توجد 3 حاجات أساسية هي الحاجة إلى النمو، والحاجة إلى أن تكون للفرد ميول وأن يكون له موضوع ميل أو حب من الآخرين. في حين يرى باحثون آخرون أن الحاجات الأساسية اثنتان، هما الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى المخاطرة. ويوجد تقسيم آخر يرى أن هناك 6 حاجات أساسية هي الحاجة إلى الأمن، الحاجة إلى التقدير، الحاجة إلى الحب، الحاجة إلى الحرية، الحاجة إلى النجاح، الحاجة إلى سلطة ضابطة أو موجهة.

وبعيدا عن علم النفس، يرى ليسانكو أن الأشياء التي يحتاج إليها أي فرد هي التعاطف والتفهم والرعاية.

وهناك تداخل بين المشاعر أو الظواهر البشرية، إذ يصعب إدراك الحدود الفاصلة بينها. فهناك مواقف يجد المرء فيها نفسه بين حاجتين متقابلتين أو متعارضتين، كالحاجة إلى الراحة (بسبب التعب والعجز عن بذل مجهود فكري أو جسدي) من جهة، والحاجة إلى استثمار الوقت أو الخوف من ضياعه، من جهة أخرى. في هذه الظروف لن يختار القارئ كتابا يتطلب مجهودا كبيرا، بل سيضطر إلى قراءة كتاب يحقق الحاجتين المتعارضتين ويوفق بينهما، كالرواية مثلا.

ومن ثم فإن النظرة إلى كتاب ما، كالرواية، مرتبط بالحالة النفسية والجسدية للقارئ، التي تتغير أو ترتبط بدورها بتغير ظروف البيئة والوسط.

 

وفضلا عن كل ما سبق، فالروايات يمكن أن تكون حافزا أو مدخلا لقراءة كتب أخرى، وذلك عبر شخصياتها أو شخوصها (الرئيسة)، بوصفهم أبطالا وعظماء وقدوات حققوا إنجازات في مجالات شتى. إن الروايات لا تخلو من قصص عن العلاقة الوثيقة بين شخصياتها والكتب. فأردوغان، في رواية (رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم)، كان يستثمر العطلة المدرسية في العمل والتكسب (بيع الماء في شوارع إسطنبول)، وينفق معظم ما يحصل عليه من أموال على شراء الكتب، ولذلك تجمعت لديه مكتبة كبيرة وهو لا يزال في مراحل دراسته الأولى. وضمّت هذه المكتبة العديد من الكتب القيمة على رأسها كتب سرانغتسي ونجيب فاضل قيصه كورك ومحمد عاكف أرصوي، بالإضافة إلى كلاسيكيات الأدب الروسي وبخاصة روايات تولستوي.

أما غيفارا، حسب ما جاء في رواية (أرنستو تشي غيفارا.. أحلامي لا تعرف حدودا)، فقد شرع في سن الـ11 في قراءة كتاب دونكيشوت (كتاب ضخم وجده في مكتبة والده). غيفارا لم تمنعه رحلاته ومغامراته الكثيرة من قضاء وقت طويل في المكتبة، حيث كان يقرأ بانشداد وتلهف بترودا، وخوسيه مارتي، ولينين، وأرنست همنغواي، وكارل ماركس.

إن الكتاب يصنع من الإنسان إنسانا، كما يقول أيمن العتوم في روايته (حديث الجنود)، فالكتب ذواتنا المضيعة، نتعرف إليها حين نبدأ بتقليب صفحات كتاب ما، نعرفها حين نبدأ القراءة وحين ننهيها. ومن رمى بكتاب من دون أن يفهمه كأنما رمى بمفتاح بيت من دون أن يدخله.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.