لا أعلم كيف صمدتُ في الدقيقة التي وقعت فيها نظراتي على حجارته الجليلة، كنت أتحرق شوقا للدخول وما ظننتني أنبهر لرؤية السور الذي سرقت الصين وصفه، فهذا هو السور العظيم.
وزعت نظراتي بسرعة لأرى هل الجميع هنا يشعرون بمثل ما أشعر، فوجدتهم غرقى مثلي، تشبثت بذراع أبي، توقف ونظر إلي، انتبه للدموع التي تقف على أعتاب جفني السفلي، رمشت فسقطت واحدة ساخنة بحرارة الأشواق، سألني "هل أنت بخير؟"، هززت رأسي، مسحتها بسرعة وأكملنا المسير على الدرجات المقابلة لباب العمود، وصلنا، سارعت لألمس حجرا عتيقا حكى لي دون أن ينبس ببنت شفة تاريخه المشرف، احتضانه للمقدسيين، شهادته على صمودهم وثباتهم، كان مكسوا بالمهابة والجلال؛ لكنه أخبرني بألا أتوقف؛ فما في الداخل أعظم وأجلّ.
اجتزت الباب الذي طالما حملقت فيه عبر شاشتي الصغيرة، فوجدتني في مفترق طرق فاخترت الطريق الذي حفظت اسمه جيدا ورددته كتهويدة منذ عزمنا شد الرحال؛ "طريق الواد، طريق الواد، طريق الواد".
نعم، هذا هو الطريق العريق المليء بالمحلات القديمة والمؤدي إلى ساحة المسجد الأقصى، تنتشر هنا الأعلام الفلسطينية فوقنا حتى ظللت الطريق بعد أن كان كئيبا بأزرق ونجمة زائلة، ورغم كرهي للزحام فإنني أشعر بأقدامي تسبح دون أن أشعر، تقودني للأمام، في رأسي تتنحى جانبا كل الأفكار، فقد سيطر علي التفكير بروعة المكان الذي أنا فيه، وقدسية المسجد الذي سأصل إليه.
رأيت الناس يتهافتون على الشراء من هنا وهناك، وضجيج لذيذ كنت أسمعه مباشرة من بثّ وسائل الإعلام قبل أشهر من اليوم، لفت نظري طفلان جميلان يتحادثان بلهجة "غزاوية محببة" عن التحرير وشهدائهم، كانا يبتسمان بفخر ويغلظان صوتهما ويستعجلان الشباب، اتسعت ابتسامتي وحييتهم بحركة خاطفة، وتذكرت عندها صورة قديمة -قبل التحرير- لطفلتين بلباس صلاة زهري في طريق مشابه ومخلوقين إسرائيليين طفيليين ابيضت لحاهم بقدر سواد ما في أنفسهم، فكتب المغردون عنها "هنا حق ينمو وباطل يشيب"، فالحمد للرب الذي أظهر الحق وأزهق الباطل.
ممر طويل، ثم منعطف، وممر آخر، ثم نفق، ها نحن نقترب، أحسست بنبضات قلبي في حنجرتي، عندما رأيت بوابة خضراء ضخمة، لم أتوقف عن التكبير حينئذ، فقد لاحت لي الذهبية بكل جمالها، رأيت الوفود تهرول فأسرعت خطاي، والتهمتني درجات البائكة الجنوبية الغربية، وطأطأتُ رأسي أمام بهاء وقداسة كل شيء هنا. أكملت الدرج ورفعت نظري ثم ملت يسارا لأكون مباشرة أمام مشهد الحلم؛ حلم الطفولة والشباب، وكيف لأحلامنا أن تتحقق بعد أن غزانا يأس الانتظار؟، نعم، أنا الآن أمام مسجد قبة الصخرة المباركة مباشرة، ارتجفت ركبتاي فسقطت ساجدة تغرقني دموعي، يلهث لساني بالحمد بعد التكبير، نهضت وهرولت للدخول للمصلى رفقة جمع الملهوفين، ممن تشرفت أقدامهم لأول مرة بالقدوم لمسرى حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، المسجد الأقصى الذي بارك ربي حوله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.