شعار قسم مدونات

الإعلام والسياسة.. الاعتماد المتبادل

 

في ظل ما يشهده العالم اليوم من تغيرات كبيرة خاصة على المستوى السياسي، يتضح بشكل جلي أن الإعلام له تأثير بالغ الأهمية في مجرى الأحداث، وبفضل التطور الاتصالي المتسارع وما أنتجته الثورة التكنولوجية من وسائل ووسائط ذكية ومتعددة أصبحت العلاقة بين الإعلام والسياسة تلازمية تقوم على تبادل الأدوار وتكاملها، وهو ما جعل وسائل الإعلام في عصرنا الحالي -الذي بات يعرف بعصر الاتصال والصورة- قادرة على الفعل بشكل مباشر أو غير مباشر في المشهد السياسي، وتشكيل رؤية لدى الجماهير نحو واقعها، وتحديد نمط تفكيرها وتصوراتها تجاه القضايا المطروحة والمستجدة بما يخدم أهداف العملية السياسية في نهاية المطاف.

 

حتى زمن ليس ببعيد، كان يعتقد أن العمل الإعلامي يجري خارج نطاق العملية السياسية بمختلف مستوياته، وبالتالي فحياد وسائل الإعلام عن البنى السياسية كان في البدء مسلما به لدى كثير من عامة الناس على الأقل، إن لم نقل حتى لدى نخبهم، غير أن التطورات التي حصلت في المجتمعات الإنسانية نتيجة الثورات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية الهائلة، وما رافق ذلك من تغييرات طرأت على نمط التفكير وعلى مستوى الوعي الجماهيري، كل ذلك أدى إلى مراجعة هذا الاعتقاد الخاطئ من أوله وإعادة النظر في هاته العلاقة الجدلية المتغيرة بين الإعلام والسياسة بفهم جديد وبتصور واقعي مبني على مبدأ الاعتماد المتبادل، وهذا هو الوجه الحقيقي لهذه العلاقة الذي تجلى في وقتنا الحاضر بشكل أوضح وبقوة أكثر من أي وقت مضى.

 

بمعنى آخر، كل تحول أو تغير يحدث في أحد المجالين بالضرورة تنعكس نتائجه على المجال الآخر، حيث إن الإعلام بكل وسائله التقليدية والحديثة كونه أصبح ضرورة فرضته متطلبات الحياة، ابتكرته المجتمعات كحاجة لتدعيم الذات والتعبير عن القيم الجماعية، سواء على مستوى وعي الأفراد أو في سلوكياتهم، ومن خلال أداء وظيفته الرئيسية في نقل المعلومة التي من أجلها يجد نفسه في خدمة الأنظمة السياسية فيقوم بإيصال توجهاتها إلى الجماهير بغية التأثير على الرأي العام، والتحكم في اتجاهاته لتنفيذ أجندات وإستراتيجيات معينة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

 

وفي المقابل -حتى تستطيع الجماهير أن تبلغ مطالبها وتطلعاتها إلى من يسهرون على إدارة شأنهم، والتفاعل معهم وتفعيل دورهم الرقابي على السلوكيات السياسية لمن هم في السلطة، وذلك من متطلبات الديمقراطية- فإن وسائل الإعلام تأخذ على عاتقها القيام بهذا الدور أيضا.

 

وفي ظل غياب هذه الوسائل التي تمثل قناة الاتصال السياسي بين هذين الطرفين، فإن الأنظمة تقف عاجزة عن التأثير والتحكم، وغير قادرة على أداء وظيفتها على النحو المطلوب، وبالتالي فإن مساعيها نحو تحقيق أهدافها السياسية التي ترسمها تبوء حتما بالفشل ولا يمكن حينئذ الحديث عن اتصال سياسي.

وأنه لما صار الإعلام ضرورة لا غنى عنها في حياة الشعوب للاستفادة من التدفق المتواصل للمعلومات والمتزايد يوما بعد يوم في شتى المجالات نتيجة تطور التقنيات والوسائل الاتصالية، ازداد الاهتمام بالعملية الاتصالية أكثر من ذي قبل، حتى أصبحت في عصرنا الحالي تدخل في صميم العمل السياسي ومن مقومات نجاحه، حيث وجد الذين يشغلون مواقع صنع القرار في الدول، والفاعلون في المشهد السياسي عموما، من أحزاب ومؤسسات رسمية، أنفسهم مجبرين على صياغة تصوراتهم ورؤاهم  بما يتوافق مع وسائل الاتصال الحديثة لحسن صنع السياسات وتنفيذها كما ينبغي.

 

مع ازدياد تأثر صنع السياسات الموجهة إلى الداخل وحتى إلى الخارج بدور وسائل الإعلام بما يعكس طبيعة العلاقة الارتباطية بين الإعلام والسياسة، ويرسخ في الآن ذاته مبدأ الاعتماد المتبادل بينهما في مشهد من التداخل وتبادل الأدوار، فإن عديدا من نقاط الاستفهام تطرح ها هنا حول حقيقة وطبيعة الدور الذي أصبح يمارسه الإعلام في يومنا هذا، في ظل تشكيك كبير يحوم حول مدى قدرته كسلطة رابعة على المحافظة على استقلاليته وحياده ومدى صموده أمام ضغوطات السلطة والرقابة الحكومية بما يكفل له هامشا من التحرك بحرية، وطرح الأفكار ووجهات النظر المختلفة، وإتاحة مساحة أوسع للنقد الحر البناء.

 

وعلى ضوء الاختلاف في الطروحات يتضح ما هو الصواب وما هو الخطأ، وترك حرية الاختيار للجمهور الذي يبحث عن الحقيقة حتى يحكّم عقله، ولا يخضع للتوجيه المسلط عليه من قبل صناع الرأي العام، ولا ينقاد لعواطفه التي عادة ما تميل به نحو معتقدات وآراء مسبقة بعيدة كل البعد عن الفهم الصحيح للواقع والتفسير المنطقي للأحداث.

لقد ساهمت التطورات الحاصلة في المجتمعات المعاصرة، بفعل العولمة وما أدت إليه من تداخل وتشابك بين جوانب الحياة، في تكريس العلاقة الارتباطية بين الإعلام والسياسة، غير أن مستوى التأثر والتأثير بينهما ودرجة التحكم تختلف باختلاف المجتمعات وطبيعة الأنظمة السياسية السائدة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.