شعار قسم مدونات

الأدب المقاوم (أيمن العتوم نموذجا)

صلاة الفجر الأولى في الأقصى بعد الإغلاق وصلى المقدسيون متباعدين (الجزيرة)

 

لا جديد!

مرة أخرى يكتب المقدسيون التاريخ، مرة أخرى يثبتون أنهم شرف الأمة الباقي، وخط دفاعها الأخير، مرة أخرى تصدق فيهم نبوءة النبي الكريم، لا يضرّهم من خذلهم.

 

لا جديد!

مرة أخرى تذيق المقاومة العدو الهوان، وتلقنه درسا بليغا لن ينساه في ما تبقى له على أرض فلسطين، وتلجئه إلى مخابئ الجرذان.

لا جديد!

يثبت أهل غزة في وجه الآلة الفاجرة القاتلة بصدورهم العارية، لا يغادرون الدور رغم إنذارات العدو، فبين جوانبها المحيا وتحت ركامها الممات.

ولكننا نتعلم في كل مرة آيات جديدة من العزة والكرامة والتضحية والثبات والتجرد والإباء والاقتدار، ونشهد نماذج فريدة من العظمة السامقة والبطولة النادرة.

في كل مرة ينضم إلى قوائم الشرف أبطال جدد، يضربون أمثلة أعظم، ويتركون دروسا أبلغ.

 

كهل من أصحاب الأعمال تهدمت دوره ودمّرت أعماله، ثم هو يقسم على المقاومة أن لا تراجع ولا مهادنة، يلتقط الصور مع أبنائه أمام برجهم المدمر، كأنها ذكرى عزيزة وشاهد على تضحياتهم يشاركونها في قادم الأيام، ويتذاكرونها بعد التحرير.

أخوان يتبادلان اثنين من أبناء كل منهما، فلا يحرم أحدهما من شرف أن يكون شهيد من بيته، ولا ينقطع نسل أحدهما إن ارتقى.

عريس يعدّ لزفافه بعد العيد، تسقط القذيفة على دار خطيبته وتصطفى شهيدة، فيراها في كفنها مستبشرة باسمة، فيرضى بأن يكون عرسه في الجنة، وأن تكون فتاته سيدة الحور، لا يرى بأسا، كل ما في الأمر أن العرس قد أُجّل قليلا!

سيدة خمسينية بطلة، ترابط في الأقصى، تسحل وتضرب من سفلة الصهاينة الذين تجمعوا عليها ككلاب مسعورة، ثم هي ترفض المغادرة ولو للعلاج، فالأقصى في حاجة إليها.

 

أما الأطفال، فلهم سطور مضيئة فريدة بين فصول تلك الملحمة!

طفلان أخ وأخته دُمّر بيتهم ونجوا، غير أن سمكتهما الصغيرة كانت تحت الأنقاض في قارورتها الزجاجية، لا يغادران حتى يستنقذاها حية سليمة في قارورتها لم يصبها خدش ولم تفقد قطرة ماء، وقد علت وجهيهما المتعبين نظرة ظفر وتحدٍّ، ولم لا؟ ألم يهزما طائرات العدو وصواريخه التي عجزت أن تقتل سمكة صغيرة.

فتاة في العاشرة محبوسة في دارها مع إخوتها الخائفين المروعين، الانفجارات لا تكاد تسكت حول الدار، الأنباء تأتيهم أن الشهداء يرتقون تباعا، لا تعلم متى يكون نصيب دارها من الصواريخ، تحاول أن تطمئن قلوبهم الصغيرة، تقرأ القرآن بصوت عال، بحرقة العابدين وخشوعهم، وكلما علت الانفجارات على صوتها أكثر، وكلما اشتد القصف انطلقت الآيات من حنجرتها الصغيرة تنزع الروع من قلوب إخوتها، وتهزم الرعب والألم، وتترك لنا الحسرة والعجز.

طفل في الخامسة لا يشغله كل ما يجري، يسأل أمه إن هو ارتقى شهيدا وقد تقطع جسده، هل سيعرفه ربه فيدخله الجنة؟ فيطمئنه أخوه الأكبر أن ربه سيجمع عليه أجزاءه، أوليس قد جمع أجزاء الطير للخليل إبراهيم؟

فتيات يافعات يزرن أمهات الشهداء، يغنّين لهن كأنهن في عرس، ينشدن بأصواتهن الطفلة المملوءة حماسة وبشرا وثباتا: "يا أم محمد هنيالك، يا ريت أمي بدالك"، فتعانق الدموع البشرى، والأغنية الألم، والسلوى الحنين، ونقف نحن مشدوهين أمام مشهد تغبطه الملائكة.

 

إن من أراد أن يتعلم كيف يصنع الرجال، فليجلس متأدبا في حضرة أطفال غزة وبناتها، ومن أراد أن يتعلم معنى الثبات والصبر والمرابطة، فليقصد حرائر بيت المقدس.

ومن رام أن يتعلم البسالة وفن الشهادة، فليزاحم الكتائب بالركب.

إن هذا ليس يقينًا عاديًّا ولا ثباتًا عابرًا كما يقول أستاذنا العتوم، مثل هذه الحالات يجب أن تُدرّس للأجيال، وإني أزعم أن أهل التاريخ والأدب اليوم في ورطة، فكيف ستسعفهم الكلمات فيصفون تلك البطولات بما يليق بها، وكيف سيحكون لأجيال قادمة أن قوما كهؤلاء قد عاشوا في زمان شأنه ما نعلم؟

كنا في مبادرة عمق للثقافة والأدب في مصر، التي أشرف أن أكون المنسق العام لها، قد اتفقنا مع الأستاذ أيمن العتوم على تنظيم صالون ثقافي في الخامس من يونيو/حزيران الماضي تحت عنوان (الفانتازيا في أدب العتوم)، بعد ذلك مباشرة انفجرت الأوضاع في الشيخ جراح، واندلعت المواجهات في الأقصى، ثم أطلق القائد الضيف تحذيره الشهير، وبدأت عملية سيف القدس، وأجبرتنا المقاومة على الانضواء تحت لوائها. تواصلت مع الأستاذ لتغيير الموضوع إلى أدب المقاومة، بخاصة أن اليوم المقرر يصادف ذكرى سقوط القدس تحت الاحتلال الصهيوني البغيض، وقد استحسن الرجل ووافق على الفور لكن الأبطال قد حسموا المعركة سريعا، ولم يتركوا لنا سوى أن يكون هذا الصالون احتفاء بنصرهم المؤزر.

وضيفنا أديب وروائي وشاعر وكاتب ومعلم ومقاوم من طراز فريد، عاش أيمن العتوم للقضية وعاشت فيه، شكلت وجدانه وصارت همّه، فكان في الصفوف الأولى، مدافعا ومنافحا بأشعاره وكلماته، باذلا من وقته وجهده في سبيلها، فأصدر لها ديوانين هما (طيور القدس) و(خذوني إلى المسجد الأقصى)، وكتب لها رواية (اسمه أحمد) وأطلّت برأسها من بين شخوص رواياته الأخرى، وصارت أشعاره وكلماته وقودا يشحذ همم المقاومين في كل ميدان.

 

فتراه يحرض على المقاومة والرسوخ والثبات منشدا:

لا تَبْرَحِ الأرضَ وَاحْمِ القُدْسَ وَالْتَحِمِ

وَانْقُشْ دِمَاكَ عَلَى بَوَّابَةِ الحَرَمِ

وَاقْبِضْ عَلَى الجَمْرِ إِنَّ القَابِضِيْنَ عَلَى

جَمْرِ البِلادِ أَضَاؤُوا عِزَّةَ الأُمَمِ

 

وهو يمجد أبطال غزة والقسام متغنيا ببطولاتهم فيغرد:

مِنْ بَحْرِ غزّةَ يَطلُعُ الثّوارُ

وَبِحُبِّهم تتفجّرُ الأشعارُ

ولهمْ نسجتُ قصائدي وزرعْتُها

زَهْرًا، تَغارُ لِسِحْرِهِ الأزْهارُ

 

وهو لا يرضى بغير المقاومة بديلا، ويتبرأ من  الاستكانة والتطبيع مع العدو، فيصرخ هادرا:

وفي النّفوسِ براكينٌ مُؤقّتةٌ

إذا هي انْفَجرَتْ لم تُبقِ من أَحَدِ

إنْ صافحتْ يدُهم أيدي صهاينةٍ

حسبي من الفخر أنّي ما مددتُ يدي

 

وحسبنا نحن من الفخر أن كان بيننا تلك الليلة، علمنا كيف يدفع القلم العدوان، وكيف الأدب شعره ونثره يصير مقاومة، وكيف تتشارك الكلمة والبندقية الخندق ذاته، تقاوم الهيمنة، ترفض الصلح والتطبيع، وتوثق جرائم العدو، وتحفظ شعلة القضية متوهجة في نفوس الأجيال، تبني وعيهم وتشكل وجدانهم، وتعلمهم معنى البطولة والفداء.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.