ليلةٌ أخرى من ليالي الشتاء الحارة الطويلة، ليالي الشتاء طويلة جدًّا، تنام و تستيقظ، ثم تنام مجددًا لتستيقظ، لكن هنا في هذا الفناء الواسع، تجد عددا من الأُسر متكوّمة في الزوايا الضيقة، و بعضها ملتف كدائرة مغلقة، زجاجات الماء تُوزع على الأسر، كل امرأة تمد ذراعيها إلى آخر ما استطاعت جامعةً أولادها في حضنها، الصمت خيّم على الجميع، وفي زاوية أخرى من البيت يقف الرجال مستعدين متأهبين لأي اقتحام متوقع.
كانون الأول، كانت الأمطار تتساقط بغزارة، ولكن هذا لم يمنع طائرات الاستطلاع التي تشبه بصوتها صوت الذبابة من التحليق فوقنا، جفوننا متهدلة من أثر السهر والأرق الذي لا يفارقنا، كيف لا؟ و الليلة تبدو ساخنة، بل ساخنة فوق المعتاد، البيوت الملازمة للتخوم أمست خاوية بعدما هجرها سكانها لأن الاجتياح البري بدأ بالتوغل وها هو يزحف نحو بيتنا، أمي تستمع إلى الراديو وأناشيد الثورة، إنها تذكي الحماسة والبطولة فينا، ترسل بوهجها فتدفئ قلوبنا الخائقة، أبي يذرع البيت جيئةً وذهابًا، البيت مظلمٌ جدا، لا توجد أي إنارة مضاءة سوى لهيب شمعة صغير يتراقص أمام عيوننا الواجمة، متى ستنتهي الليلة؟ الحي كله معتم، الظلام سائد الآن وبقوة، كانت عادةً منتشرة يعرفها الصغير قبل الكبير، الخطوة الأولى: إطفاء أنوار البيت بالكامل حتى لا تنصب رشقات رشاشات الجنود علينا، أو كي لا يسقط فانوسٌ حارق فيحيلنا رمادًا، أو صاروخ فيشتت عظامنا، أما الخطوة الثانية فهي الابتعاد عن الحائط قدر الإمكان حتى لا تتساقط الحجارة علينا.
الدقائق لا تمر كأنها حملت بجوفها صخرة صمّاء، سماعات المستوطنات تردد كلمات بالعبرية، أصوات أقدام الفدائيين تذرع المخيم بسرعة كبيرة، يخيل لك كأنما مرّوا مرّ الريح الخاطفة.
صوت طرقات عنيفة على الباب، شخصٌ يدق الباب بكلتا يديه، يفتح أبي على عجل، إنه جارنا (سعيد)، سعيد السمين، يتصبب عرقًا، يلهث ويقول بأصوات متقطعة: "الجيبات، الجيبات العسكرية قريبة جدًّا، صرتم في مرمى النار، أفرغوا البيت حالًا"، ولكن أين سنذهب؟ لا يوجد مكانٌ آمن في المدينة كلها.
خرجنا مسرعين من بين الأزقة التي داستها أحذية الفدائيين قبل دقائق، جيراننا أيضًا خارجون، الأزقة ضاقت بنا، لا تتسع لهذا الحشد الكبير، نعبر الظلام، كأننا مجموعة من العمي، لا أحد فينا يتعجب من قدرتنا على السير في الظلام، أصبحنا سربًا نعرف بعضنا ونعرف الأسرة المتأخرة عن اللحاق بنا، إنهم بيت أبي إبراهيم، المرأة تقف بالشرفة، تستطلع زوجها وأبناءها بقلق، أما الزوج فيجلس في زاوية ضيقة مع بضعة رجال آخرين يتسامرون، ظنوا أن الأمر سيمرّ بسلام، ولكن الكشافات بدأت بالرماية فأصابتهم جالسين، كان مشهدهم مستفزًّا للجنود، محقّرًا لهم ولدباباتهم، مرّت دقائق حسب الرجال فيها أن الأضواء عميت عنهم، ولكن ضوءًا أحمر يركض مسعورًا نحوهم، قذفته طائرة من علو فأصابتهم، فصرخت النساء وبكى الأطفال، وجمد الرجال مكانهم، وكأن صيحة خرجت من بوق إسرافيل، صاروخٌ آخر كان صيحة البعث، استفقنا من هول الصدمة، جفّت الدموع، وخبت الصرخات، ثم أخذنا نركض من زقاق إلى آخر، كان الجيبات قد طوّقت الحي والشوارع الرئيسة، بقينا بين مخالب الجنود، الطائرات من فوقنا والرصاص يمر من جانبنا، والجنود في البيوت خلفنا، والفوانيس الحارقة أشعلت الليل، فأضاءت الأرض من تحتنا، "يهرم ابن آدم و تبقى منه اثنتان: الحرص والأمل"، هذا كان مدادنا، الطاقة التي أمدّتنا بالقدرة على السير، نسير لكن لا نعلم إلى أين!
من بطن الحارة خرج أمامنا شبحٌ لا نبصر وجهه لشدة الظلام، نور القمر يعكس ظلالًا على وجهه، إنه أيمن الابن الأكبر لأستاذ اللغة العربية الهرم، يقودنا ونحن نسير خلفه كأنه حادينا، أخيرًا عُلِمت الوجهة، سنقضي الليلة في بيت الأستاذ. كان فناء بيتهم واسعًا وفيه حمامٌ بات عموميًّا، النساء باهتات الوجوه، الرجال في الزاوية مضطربون، يقطعون الوقت بالأحاديث والتوقعات التي لا مقياس لصحتها، عمن صار أسيرًا أو أمسى شهيدًا.
صوت هدير محركات العربات العسكرية يقترب، والطائرة باتت على مقربة منا، أكاد أقسم أنها حطّت فوق السطح، هل هي ساعة الصفر؟
اضواءٌ تخترق العتمة، تبحث عن أجسادٍ لتحيلها جثثًا متصلبة.
ضرباتٌ قويةٌ بالهراوات ومن بساطير الجنود تدق الباب العنف، سكت الخوف عنا وقتلته الضربات، العيون على الباب متجمعة شاخصة، بلغت القلوب الحناجر، ليس بيننا والموت سوى باب، باب كأنه سراب، الأمهات يعتصرن فلذات أكبادهن، و يقرأن آيات الرسول ليلة الهجرة،
وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون،
آياتٌ رافقتنا في كل الاحتياجات، كان وما زال مفعولها معجزًا. الآباء ينظرون نظرة وداعٍ إلى أسرهم، يحملون أسلحةً بدائية من العصي والحجارة والسلاح الأبيض، أدركت أن حرب شوارعٍ ستكون بمواجهة جيشٍ نظاميٍ صهيوني، اخترق الصمت صوت رشقات الرصاص، كانت طلقات الفدائيين الذين يحتمون خلف براميل حديدية وأكياس رملية. أخيرًا أتى المدد "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
انبطح الجميع على أرض الفناء غير آبهين بالبرد، يحاولون نزع قشرة الأرض ليصنعوا منها غطاء ليقيهم الرصاص المسكوب.
امتدت المعركة حتى ساعات الفجر الأولى، صوت الأذان يختلط مع أزيز الرصاص متحديًا عنجهية المحتل، و مع صوت السماعات التي تردد كلمات بالعبرية، يُطلب فيها من الجنود الانسحاب والتراجع على الفور، ولكن أسودنا ما أمهلوهم لحظة، فأخذوا يفرّون بدباباتهم وطائراتهم متقهقرين، حاملين جرحاهم وقتلاهم، جارّين أذيال الخيبة.
انتهت المعركة حتى أجلٍ آخر، وبعد أن تثبت الرجال من انقشاع الصهاينة، فُتِح الباب، وأضيئت الأنوار، فسرت الكهرباء جذلةً، متراقصةً داخل المصابيح، وصدحت التكبيرات من الحناجر، هنّأ الجميع بعضهم بعضا بالسلامة، ولكن الصمت عاودنا مجددًا، كانت هناك جثتان مضرجتان بالدماء، أصابهما رصاص الغدر الذي تسلل من النافذة، وطرحهما تسقيان الأرض بدمائهما الزكية، إصاباتٌ كثيرةٌ في المكان، أبواق سيارات الإسعاف يتعالى نفيرها، مجزرةٌ وقعت في فناء الأستاذ، أصواتٌ، دماء، تكبيرات، دموع، وغادرتني المرئيات.
آخر ما أذكره أني كنت محمولة في حضن أبي أبصر الطريق يمر سريعًا عن جانبي، عندما استفقت عند العصر كنت في بيتنا وإخوتي، بيتنا الذي تحول إلى ثكنة عسكرية قذرة، دنّسته بساطير الصهاينة، لا أعلم ماذا أرادوا من البيت حتى قلبوه رأسًا على عقب كما في كل جولة همجية يشنّونها.
كل شيء استحال خرابًا، كيف لهم أن يعرفوا ؟! فقطيع ضباع منبوذ لا أرض له ولا سماء، كيف له أن يفهم علاقة الأرض بالبنين؟!
جولة التنظيف والتطهير تبدأ، وما إن تنتهي حتى تبدأ جولة وحشية دامية أخرى، لتتوالى هذه الحوادث الداميات من حين إلى آخر، مبيّنةً عنجهية المحتل وصلفه، مؤكدة ثبات شعبنا وتمسكه بحقوقه المشروعة وأرضه.