شعار قسم مدونات

المسجد الأقصى والمغرب الأقصى

حارة المغاربة.. وصية صلاح الدين الأيوبي الحيّة
حارة المغاربة.. وصية صلاح الدين الأيوبي الحيّة (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

تقول الحكاية إنه في عهد إمام اليمن المشهور (أحمد حميد الدين) وقعت مظلمة على مواطن، فحمل مظلمته وقصد باب قصر الإمام ليشتكي، فوجد كاتبا بليغا عند القصر، كتب له خطابا مؤثرا ليحمله إلى الإمام، وقبيل رفع الشكوى قال المواطن للكاتب: اقرأ علي الخطاب، فلما قرأه عليه انهد الرجل باكيا، فقال الكاتب: مالك تبكي يا هذا ؟! فقال الرجل: والله إني ما أدري أني مظلوم إلا اليوم.!

مجرد أسئلة

هل يعلم المغاربة أن لديهم أوقافا باسمهم في بيت المقدس منذ العصر الأيوبي؟ لماذا كان أول قرار للكيان الصهيوني هو هدم حي المغاربة كاملا ومحو آثاره؟ لماذا لا نسمع عن السكان الأصليين من المقدسيين المغاربة؟ لماذا استولى اليهود المعتدون على مفتاح "باب المغاربة" دون باقي أبواب القدس الشريف؟ هل يعلم الجيل الجديد من المغاربة أن أجدادهم شدوا الرحال للحج والجهاد وساهموا في تحقيق الانتصار؟ هل سيطالب المغرب يوما بحقوق المقدسيين المغاربة المغتصبة؟

شيء من التاريخ

بعد الانتصار الساحق للناصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في معركة حطين، عبر مجاهدو الأقطار عن رغبتهم في العودة الى أوطانهم، فلم يتردد صلاح الدين في السماح للعراقيين والمصريين والشوام وغيرهم، إلا المغاربة، وكانوا يشكلون ربع الجيش، طلب منهم البقاء في القدس، فلما سُئل عن سبب تمسكه بالمغاربة خاصة، قال قولته الشهيرة:

أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر،

وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى.

وبعد الناصر صلاح الدين أوقف نجله الأكبر الملك الأفضل نور الدين "حارة المغاربة" على المغاربة المقيمين في القدس، وتقدر مساحتها بـ 45 ألف متر مربع أي 5% من مساحة القدس القديمة، وهو الوقف الذي استمر على امتداد أكثر من 800 عام، إلى حدود يونيو/حزيران 1967، حيث كان أول قرار اتخذه العدو الصهيوني بعد احتلال المسجد الأقصى هو هدم حارة المغاربة، إذ سوّت الجرافات العنصرية الحارة بالأرض، وهدمت أكثر من 130 عقارا، من جملتها 4 مساجد، والكثير من الأوقاف، بل دمرت بعض المباني، وبها كبار السن، على رؤوس اصحابها ولم تمهلهم، كما أصر الصهاينة على مصادرة مفتاح باب المغاربة، ومازال في حوزتهم حتى الآن! هكذا قام اليهود المعتدون بمحو حياة كاملة للمغاربة بهدم حارة المغاربة، وهم الذين جعل الملك الأيوبي أحكامهم إليهم، ولم يجعل يدا لأحدٍ عليهم، وتمتعوا بكثير من المزايا والخصائص في بيت المقدس، فاختفى كل ذلك، واختفى مسجد المغاربة و "شيخ المغاربة و"ونشاط زاوية المغاربة". وتوقفت زيارات العلماء والرحالة المغاربة، لقد تم محو حياة مغربية كاملة كانت تنبض هناك، وتم تحويلها إلى ساحة للبكاء! حيث يحتفل المعتدون سنويا بما أسموه "يوم توحيد القدس" الذي تحول كابوسا لديهم هذه السنة، حيث شنفت أسماعهم صفارات الإنذار فهرعوا هلعا للملاجئ والجحور..!

صدى هبة القدس

بعد عقد من الزمن على الهبات العربية، وحملات الاسترداد لاستعادة الاستبداد العربي العتيد، شعر الكيان الصهيوني بالزهو والعلو الكبير، فهو يتمتع بالدعم اللا مشروط من الإدارات المتعاقبة على حكم الولايات المتحدة، ويحظى بالتغطية التامة على جرائمه ضد الانسانية، وتتم دوما مساعدته على الإفلات من العقاب، وقد زاد من غروره موجة الهرولة والتطبيع من بعض الأنظمة العربية، إذ مرت بانشغال تام للشباب بهمومه اليومية، ولامبالاته بالقضية المركزية التي أصبحت منسية! أما الجيل الجديد فقد تفرقت اهتماماته في فضاءات ومنصات التواصل الاجتماعي، ولا مجال للحديث عن الأحزاب والحركات ومؤسسات المجتمع المدني على طول الوطن العربي وعرضه، فتكاد ما تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، إلا بعض الأصوات الصامدة هناك في المغرب الأقصى، التي رفع أحد نشطائها صوته عاليا "بيبيوّ" بالأمازيغية، التي يقابلها تعبير "واك واك آعباد الله"! وألف كتاب "الخراب بالباب" محذرا من زحف عملية التطبيع التي تجري سرا وعلنا في بلده، وكأنها صيحة في واد، لذلك قدر العدو الصهيوني أن الوقت مناسب جدا لمزيد من التهويد للأرض المقدسة، فاختار بخبث مناسبة سماها "يوم القدس" لفرض هيمنته على الأرض المباركة وما حولها، وإمعانا في عملية طمس المظاهر الإسلامية للقدس الشريف، وفي أول يوم من شهر رمضان، اقتحمت قوات الاحتلال فناء المسجد الاقصى لقطع أسلاك مكبرات الصوت، حتى لا يسمع الأذان وصلاة التراويح من مآذن الأقصى الأربع، فهم يريدونها مدينة يهودية الطابع بالكامل، بما ينسجم مع قانون يهودية الدولة الذي أقروه عنوة وأعانهم عليه رئيس دولة عظمى لم تجدد فيه الثقة، وتم إبعاده غير مأسوف عليه، ومازال الرئيس الحالي مستمرا على درب أسلافه في حماية الكيان الإرهابي، ورئيس وزرائه مجرم الحرب، والمتهم بالفساد، بل هو مهدد بالسجن من محاكم كيانه نفسها!

 

وإذا كانت 10 سنوات من التفرقة، على كافة المستويات، كافية ليعلن الكيان العنصري علوه الكبير، ويقوم باغتصاب ما تبقى من أراض وبيوت جهارا نهارا، ويدنس المسجد الأقصى، ويمنع كل مظهر إسلامي للبلدة القديمة، فإن 10 أيام فقط أشعلت الأرض المباركة من تحت أقدامه، وانتشرت حالة غير مسبوقة من الالتحام الشعبي حول القدس الشريف، وعادت قضية فلسطين إلى مركزيتها، واستعاد المسجد الأقصى المبارك بؤرة الاهتمام، وعاشت مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وحدة غير مسبوقة، حيث التف الجميع لأول مرة حول فصائل المقاومة الصامدة بكل أذرعها العسكرية الباسلة، مدعومة بتعاطف الشعوب العربية والأحرار عبر العالم..

 

وكان "يوم القدس" -الذي اختاره الكيان العنصري عيدا له بمناسبة احتلال القدس الشرقية سنة 1967- يوما عالميا مشهودا، إذ خرجت شعوب العالم منددة بالمحتل وبجرائمه التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي كلها، قبل أن تستدرك إداراتها المتواطئة وتقوم بتقييد النشر عبر تويتر وإنستغرام وفيسبوك ويوتيوب وواتساب.. دعما وخوفا على سمعة المعتدي، ولكن حقيقة العدوان كانت أكبر من حجبها، إذ وصلت جرائمه ضد المدنيين العزل من الأطفال والنساء، للرأي العام العالمي، وبشكل مباشر أحيانا، مما جعل شعوب العالم تتفاعل وتتعاطف مع أصحاب الحق من حي الشيخ جراح إلى غزة الصامدة، وإن كانت حكوماتهم تدعم المغتصب المحتل! وكأن لسان حال الرؤساء: نحن ندعم "إسرائيل" عمليا بالمال والسلاح والحماية من العقاب، ونترك لكم فرصة التعبير عن الغضب المؤقت! بما ينسجم مع سلوك الغرب المنافق، وعلى رأسه رئيس الولايات المتحدة، والذي خرج متبجحا بدون أدنى حياء، بحق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها! وهي المعتدية المحتلة، والأنكى من ذلك أنه يعتبر الضحايا والمقاومين للعدوان الهمجي من "الإرهابيين" وهو الأمر الذي رفضته الشعوب وأحرار العالم المساندون لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعيش الكريم..

إنها فعلا حالة التحام تاريخية، توحدت فيها الشعوب والأجيال الجديدة حول قضية فلسطين، التي ظن الجميع أنها قد توارت عن الاهتمام، في الأذهان وفي الاعلام، بل هناك أصوات في الحزب الديموقراطي نفسه، خصوصا من الشباب، لا تتبنى الانحياز الكامل من الإدارة الأميركية إلى "اسرائيل" كما اعترف العدو نفسه في بعض صحفه أنه خسر معركة الرواية والوعي هذه المرة..

هبة المغرب الأقصى

وإذا كانت القدس قد أطلقت حالة الالتحام غير المسبوقة بين كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وربطت بين نضال الأجيال، فإنها كانت سببا أيضا في هبة المغرب الأقصى مجددا لنصرة المسجد الشريف، فمن كان يظن أن مروجي شعار "تازة قبل غزة"، بالأمس القريب، سيختفون بالمرة ويدعون المجال لرافعي شعار "كلنا فدا فدا لفلسطين الصامدة" الذي تردد في ما يقارب 60 مدينة بربوع المملكة الشريفة، ومن ذا الذي كان يظن أن صاحب نداء "بيبيو الخراب بالباب" ورفاقه سيفرحون بالشعارات التي رفعها الشباب في عشرات المدن، نصرةً للشعب الفلسطيني وتنديداً بعدوان الاحتلال رفضاً للتطبيع مع كيان مغتصب، بل آن لقامة النقيب والأيقونة اليسارية عبد الرحمن بنعمرو أن تنتصب مجددا من "سقطة" يوم الارض على أرض الرباط! وآن له أن يمضي في دربه الشامخ وهو الشيخ الذي بلغ 88 سنة، وما زال يمشي مرفوع الهامة مناهضا لكل خنوع أو تطبيع مع ما يسمى "إسرائيل" فتجده أحيانا وهو ابن التسعين يسبق شباب العشرين لساحات النضال والاحتجاج، وهو الحقوقي الأصيل والمكافح النبيل..

 

وبكلمة: فقد أعادت هبة القدس ومعركة "سيف القدس" الأمور إلى نصابها واستعادت الأرض المقدسة مكانتها، وهي تلك الأرض التي كانت في يوم ما تضم "حارة المغاربة" التي على أجيالنا الجديدة تذكرها وعدم نسيانها لاسترجاعها يوما، فحرب الذاكرة لا تقل أهمية عن الكفاح المسلح، وإذا كان لليهود المغاربة "بيت للذاكرة" في الصويرة يحظى بكل الرعاية والاهتمام، فللمقدسيين المغاربة ذاكرة يجب ألا تمحى كما محيت "حارة المغاربة" عن بكرة أبيها من اليهود المغتصبين.

خاتمة

ونحن في طريقنا إلى المهرجان التضامني الذي نظمه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الدوحة، أثار انتباهي شباب اللجنة المنظمة، الذين ولد أغلبهم بعد اتفاق اوسلو والانتفاضة الثانية، شباب كله حماس تكلف بتنظيم أول تظاهرة جماهيرية تنديدية تعرفها دوحة قطر، وسهر على إنجاحها، والأعجب من ذلك التحاق جيل ولد بعد الربيع العربي، وانخراطه في مناقشة الأحداث الجارية في المسجد الاقصى وحي الشيخ جراح.. وعلى هامش التظاهرة لمحت طفلا مغربيا لم يتجاوز العشر سنوات غاضبا بسبب منعه من الالتحاق بالمهرجان! لأن اللجنة المنظمة تمنع الأطفال، أقل من 16 سنة من المشاركة، إنها فعلا هبة عالمية للتضامن من القدس الشريف، أجمل ما فيها أن جيل النكبة والنكسة وما عاشه من يأس وشعور عام بالإحباط أمام جرائم "الجيش الذي لا يقهر"! قد خلفه جيل الانتفاضة الباسل، الذي تسلم المشعل بجدارة، وتلاعب بعبقرية "القبة الحديدية" وسخر منها بأنها مجرد "قبة ورقية"!.. ومما لا شك فيه أن جيل الانتفاضة سيخلفه جيل التحرير، الذي لن يوصل فقط صاروخه الذكي الذي يربك القبة الحديدية، بل ستطأ أقدامه الشريفة تلك الأرض المباركة وما حولها، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وما ذلك على الله بعزيز.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.