شعار قسم مدونات

الاتحاد العام التونسي للطلبة.. خيار طلابي لم تقبله الدكتاتورية

 

لا يمكن أن يقاس تقدّم الشعوب وازدهارها إلا عبر التطرّق إلى قيمة العلوم والبحوث التي تنتجها تلك الشعوب، لذلك نجد أن أعظم الدول وأكثرها نموّا وتقدّما تلك التي راهنت على الجامعات وأعطتها مكانة متقدّمة في سياساتها ورصدت لها إمكانيات هائلة لتنتج العلم والمعرفة ولتصنع نخبا قادرة على تحمّل المسؤولية وقيادة البلاد.

غير أنّ المراهنة على إنتاج المعارف لا تكفي لوحدها، فالجامعة هي فضاء متنوّع ومستنير يضمّ فئة الشباب، وهي أكثر فئة قدرة على العطاء والبذل في المجتمعات. يمكننا القول إذن بأن الجامعة يمكن أن تكون فضاءً مستوعبا لمشاكل المجتمع بمختلف تشعّباتها، ومسؤولا على تقديم الحلول والبدائل، ممّا يحيلنا إلى مفهوم " الجامعة القاطرة"، أي التي تقود مجتمعها نحو تجاوز النكسات والهزات وتتقدّم به نحو الأفضل عبر الحراك الدائم على المستويات العلمية والسياسية والثقافية والنقابية التي يقوم بها الطّلبة تحت مظلة الجامعة الموازية أو الحركة الطلابية.

في هذ الاطار، نستطيع أن نستشفّ الأدوار التاريخية للحركات الطلابية في مختلف دول العالم ومساهماتها الفعّالة في قيادة معارك التحرّر ضدّ الاستعمار، إضافة إلى دور الطلبة في إحياء شعارات الحريّة والديمقراطية التي لطالما طالبت بها الشعوب المقهورة والمظلومة.

 

الحركة الطلاّبية التونسية

تجدر الإشارة إلى أن جامعة الزيتونة في العاصمة التونسية هي أول جامعة علميّة في العالم، حسب آخر تقرير أعدته جامعة أكسفورد حول أقدم الجامعات العلمية في العالم، حيث تأسست جامعة الزيتونة سنة 737 م، ممّا يؤكّد عراقة الجامعة التونسية تاريخيا، وقدرتها على تخريج آلاف الكفاءات والمناضلين السياسيين خاصّة في محاربة الاستعمار الفرنسي والمطالبة بالاستقلال.

تأثرت الحركة الطلابية التونسيّة في القرن العشرين بالتجارب الطلابية المنادية بالقيم الإنسانية والكونيّة والمطالبة بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وكانت سمة "الاحتجاج" هي السّمة الأبرز في مواجهة الاستعمار في المرحلة الأولى، ثمّ مواجهة الظلم والدكتاتورية في مرحلة ما بعد الاستقلال. قدّمت الحركة الطلابية التونسية شهداءً في مختلف محطّات النضال الوطني، ممّا جعلها رقما صعبا في التاريخ التونسي المعاصر، ولعلّ تجربة الاتحاد العام التونسي للطّلبة خير تأكيد على الإسهامات المرموقة التي قدّمها الطلبة التونسيون دفاعا عن الحريّة والديمقراطيّة لشعبهم.

 

نشأة الاتحاد العام التونسي للطّلبة

بلغت الحركة الطلابية قبل 36 سنة من الآن حالة من الركود والعجز والتفتّت والانقسام، ممّا سهّل على نظام بورقيبة في ذلك الوقت تمرير أجندات وقرارات خطيرة يمكن أن تمسّ الجامعة التونسية في جوهرها.

كانت حالة القلق من الوضع الذي تعيشه الحركة الطلابية مشتركا بين مختلف التيارات القومية والإسلامية واليسارية والمستقلّين، ممّا جعل أصواتا طلاّبية تنادي بضرورة التفكير في إطار طلّابي جامع قادر على تجميع الطلبة من مختلف التوجّهات يكون سدّا منيعا أمام السّلطة التي تريد إحكام سيطرتها على الجامعة عبر تصفية الأصوات المعارضة داخلها.

اجتمع الطلّبة التونسييون في كليّة العلوم بتونس، ونظّموا مؤتمرا تاريخيّا أيام 18 و19 و20 أبريل/نيسان 1985 أسموه "المؤتمر العام للحسم"، وكان هذ المؤتمر مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الطلابية التونسيّة ونقطة تحوّل محورية بعد ما رافقه من نقاش وحوار حول فكرتين أساسيّتين: الأولى إعادة إحياء الاتحاد العام لطلبة تونس وتخليصه من سيطرة السلطة والمجموعات اليساريّة المتطرّفة، أمّا الفكرة الثانية فهي تأسيس منظّمة طلابيّة جديدة تقطع مع انقسامات الماضي وتؤسس لفعل طلاّبي جديد لا يخضع للتصنيف السياسي والأيديولوجي.

وبعد نقاش طويل ومعمّق صوّت المؤتمرون بالأغلبية لصالح الخيار الثاني وهو تأسيس منظمة طلاّبية جديدة تستلهم اسمها من الاتحاد العام التونسي للشّغل الذي كان يتعرّض لتضييقات كبيرة من نظام بورقيبة، فكان الاسم المقترح للمنظمة الجديدة هو "الاتحاد العام التونسي للطّلبة" تحت شعار "وحدة، نضال، استقلالية".

تحمّس عموم الطلبة التونسيّون لهذه الفكرة الجديدة التي لاقت رواجا واسعا في صفوفهم وبدأت الجامعة تستعيد بريقها شيئا فشيئا من خلال الأنشطة المتنوّعة والإبدعات الطلابية والمهرجانات الخطابيّة التي كان يقوم بها الاتحاد العام التونسي للطّلبة. غير أن الخطاب الرافض للظلم والاستبداد والداعي للحريّة والديمقراطية جعل نظام بورقيبة في مرحلة أولى ونظام بن علي في مرحلة ثانية يدخلان في مرحلة العداء المباشر لهذه المنظمة نظرا لخطابها المناقض لرغبة السلطة في السيطرة على الجامعة.

 

الخطاب الاحتجاجي واستدعاء المعارضة

نظرا للاختناق الذي فرضه النظام الدكتاتوري على كل الفضاءات، كانت الجامعة الفضاء الوحيد المتمرّد على خيارات السّلطة حيث أسماها البعض "فضاء المعارضة" خاصة بعد تصدّر الاتحاد العام التونسي للطلبة المشهد الطلاّبي وتبنّيه الخطاب الاحتجاجي الرافض للسياسات القمعيّة التي تنتهجها السّلطة والتي تميّزت بتكميم الأفواه واستعمال كلّ وسائل القوة المتاحة لتصفية المعارضين السياسيين.

كان الاتحاد يقوم بمسيرات حاشدة في الجامعات والشوارع والمدن، مطالبا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مستعدّا لتقديم الشهداء، وهو ما حدث بالفعل في عدد من المحطات حيث اقتحم البوليس الساحة الجامعية واستعمل الرّصاص ضدّ مناضلي الاتحاد العام التونسي للطلبة، ونذكر على سبيل المثال أحداث يوم 8 مايو/أيار 1991 حيث اقتحم الأمن المدرسة القومية للمهندسين بتونس وقام بتصفية الشهيد أحمد العمري، كما اقتحم في اليوم نفسه كلية العلوم بتونس وصوّب رصاصه في رأس الشهيد عدنان بن سعيد ممّا جعله يوما أسود وحزينا في الجامعة التونسية.

يمكن اعتبار تلك المرحلة بعد تأسيس الاتحاد كمرحلة كرّ وفرّ بين النظام وهذا الاتحاد الطلاّبي خاصّة وأن نظام بن علي أيقن أخيرا بأن محاولات تدجين هذه المنظمة أمر مستحيل، ممّا جعله يلجأ للمسار الأمني والقضائي.

 

حلّ الاتحاد العام التونسي للطّلبة

وصل نظام بن علي سنة 1991 إلى قناعة تامّة مفادها بأن إحكام السيطرة على البلاد يستوجب ضمّ الجامعة إلى الفضاءات التي وقع تدجينها والسيطرة عليها باعتبارها مصدر قلق دائم ومتواصل بالنسبة لهذا النظام الدموي، وخاصّة بعد فشل كلّ المحاولات اليائسة لإيجاد تسوية سياسية مع قيادة أكبر تنظيم طلاّبي داخل الجامعة آنذاك والتي كانت تخرج بصدور عارية وتطالب بالإفراج عن المساجين السياسيين والتوقف عن السياسات القمعيّة وتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة.

شرع النظام بسرعة في تلفيق التهم القضائية للمناضلين النقابيين، إضافة إلى الحملات الأمنية الواسعة في الجامعات عبر الانتشار الكبير للبوليس السياسي والاستعانة ببعض الطلبة اليساريين المتطرفين المنتمين للاتحاد العام لطلبة تونس للتبليغ عن تحرّكات قيادات الاتحاد العام التونسي للطّلبة، إضافة إلى الاجتياح الليلي للمبيتات الجامعية واعتقال الآلاف من الطلّبة، علاوة على اقتحام مقرات الاتحاد العام التونسي للطلبة داخل المؤسسات الجامعية، ووضع الأسلحة البيضاء وقوارير المولوتوف داخلها من أجل اتهام المنظمة بممارسة العنف وتيسيير الطريق من أجل حلّها قضائيّا.

وهو ما حدث بالفعل يوم 8 يوليو/تموز 1991 حيث صدر قرار قضائي جائر يقضي بحلّ الاتحاد العام التونسي للطلبة، وانطلقت حملات أمنية واسعة لاعتقال قياداته ومناضليه. كانت 6 سنوات كافية فقط لهذا الاتحاد -الذي أنجز 4 مؤتمرات ديمقراطية وفاز بأغلبية ساحقة في الانتخابات الطلابية- بأن يكون رقما صعبا في مواجهة نظام دموي وقاتل أراد القضاء على الحركة الطلابيّة وعلى كلّ صوت معارض في البلد.

 

سنوات الركود (1991-2011)

بعد حلّ الاتحاد العام التونسي للطّلبة سنة 1991 أصبحت الجامعة لقمة سائغة بالنسبة لنظام بن علي الذي عوّل على الدور الكرطوني الذي كان يقوم به الاتحاد العام لطلبة تونس باعتبار أن أغلب قياداته في ذلك الوقت كانوا موالين لنظام بن علي، ومنهم من وقعت تسميتهم وزراء في الدولة.

دخلت الجامعة بعدها في مرحلة ركود، وانطلق النظام في إصدار المنشورات والقوانين التي تمنع النشاط السياسي والحزبي، كما قام بخيارات كارثية ساهمت في ضرب جودة التعليم في الجامعة التونسية لمدة طويلة، ولعلّ أبرز هذه الخيارات استيراد منظومة "أمد" من الخارج بطريقة عشوائية دون وضع المنظومة القانونية اللازمة لتنفيذ هذه المنظومة، وكانت غايته الوحيدة إظهار انفتاحه على التجارب الأخرى والتسويق لصورة بن علي.

كما تم سنّ العديد من القوانين التي تضرب العملية التعليمية في جوهرها دون وجود معارضة حقيقية قادرة على إيقاف رغبات النظام البائسة. إضافة إلى ذلك قام النظام بتجنيد "طلبة التجمّع" أو "طلبة الحزب الحاكم" لتمييع القضايا الحقيقية التي تهمّ الجامعة والوطن، وتوجيه بوصلة الطلبة نحو الرحلات والاحتفالات لتلميع صورة النظام ولتخريج جيل متخلّ عن أبسط حقوقه.

في هذا الإطار لا يمكن أن نغمط حقّ بعض المحاولات الصادقة في وجه نظام بن علي في تلك الفترة، ولعلّ أبرزها تجربة "الطلبة المستقلون" التي حاولت التشهير بممارسات النظام وفضحه، لكّنها جوبهت بآلة بوليسية حادةّ جدّا. استمرّت هذه الحالة إلى حدود ثورة الحريّة والكرامة سنة 2011 والتي فتحت قوسا جديدا في تاريخ الجامعة التونسيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.