شعار قسم مدونات

أثر الحديث في اختلاف الفقهاء..

blogs البخاري
blogs البخاري (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

قال سفيان بين عيينة -رحمه الله: الحديث مَضِلّة إلا للفقهاء. ما أحوجنا في هذا العصر والزمان إلى الاستنارة بمثل هذه المقولات، في زمن صار فيه كل من قرأ مجموعة من الأحاديث، أو حفظ حديثين أو 3 يريد أن يتصدّر للاجتهاد، ويفتي الناس ويصحح لهم دينهم، ظنّا بل اعتقادا منه أنه اكتشف أن الأمة قبله كانت على جهل وضلال، وأنه قد أوتي العلم الحق.

الغرور بسبب التقنيات

انتشر بين قطاع عريض من المهتمين والمشتغلين بالعلوم الشرعية أن عصرنا هذا -بحكم التقنيات ووسائل تخزين وأرشفة وحفظ المعلومات ورقيا أو إلكترونيا- أدق للعلم وأنجع من عصور السلف، وأزمنة مباركة كان فيها رجال يفنون أعمارهم بطول ليلها أو نهارها في طلب العلم والاجتهاد في التدريس والمذاكرة، ولم يشغلهم عن ذلك فقر ولا مرض ولا صبارة قرّ أو حمارة قيظ، وعلت همتهم وسمت أنفسهم حتى بلغوا من العلم الذي وصلنا منهم، ولا نزال ننتفع به ونتلمس بركته، ناهيك عن الذي ضاع لظرف أو لآخر، خاصة غزوات الفرنجة والمغول.

هؤلاء رأوا أن ما بيدهم من الأحاديث يتيح لهم التدخل وإعادة تعريف القواعد والأصول التي بنيت عليها المذاهب المعتمدة عند الأمة، وأنه يمكنهم أن يستدركوا على فحول الفقهاء وسادتهم في العصور المباركة، ظنا أو زعما أن اختلاف السادة الفقهاء هو اختلاف (وصول)، ولكن الحقيقة التي تقي كل من أراد الانتفاع بالعلم الشرعي من المسلمين عامتهم وخاصتهم هي أن:

اختلاف الفقهاء اختلاف أصول لا اختلاف وصول؛

أي أن الفقيه الذي اختلف مع أخيه الفقيه في مسألة ما لم يكن السبب أن نص حديث متعلقا بها لم يبلغه ولم يصله، وهذا سبب الخلاف، فتعالوا لننشئ رؤية فقهية جديدة قوامها هذا الفهم المعوج لسبب اختلاف الفقهاء.. هذا لسان حالهم.

كتاب على طريق الخروج من الجهل

وفي سبيل الخلاص من هذه الطريقة الخاطئة في الفهم، أريد أن أوجه من هو معني، وأنذر من هو غارق في سوء فهمه لأسباب اختلاف الفقهاء -رحمهم الله- إلى كتاب صغير، ولكنه مهم وكثيف الفكرة، ألفه الشيخ محمد عوّامة، وهو من علماء بلاد الشام، وتحديدا حلب، وولد في 1358هـ،1940م.

وبطاقة تعريف الكتاب باختصار، هي:

  • عنوان/وسم الكتاب: أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم
  • صادر عن دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع.
  • بقلم الشيخ محمد عوّامة
  • عدد الصفحات 168، قطع متوسط

ويبحث الكتاب في منزلة الحديث الشريف عند الأئمة، وبيان متى يصلح الحديث للعمل به، واختلاف فهم الأئمة للحديث، واختلاف مسالكهم في التعاطي مع التعارض في السنة ظاهرا، واختلافهم لتفاوتهم في سعة الاطلاع على السنة، وبناء على هذه الأسباب الأربعة للاختلاف ظهرت مدارس وأحكام فقهية مختلفة أصوليا.

ويوضح الشيخ عوامة أن شروط صحة الحديث مختلفة عند البخاري ومسلم، وكل فقيه له مدرسته؛ فالبخاري مثلا يشترط الاتصال، في حين يشترط مسلم إمكان اللقيا، وترجيح حديث مروي في الصحيحين على غيره خطأ وجهل، فلأهل الحديث مدارسهم الفقهية التي أثرت في رواياتهم، والشافعي يعتبر الحديث المرسل ضعيفا ضعفا يسيرا أو يأخذ به في مؤيدات مثل إفتاء بعض الصحابة به، بينما يراه أبو حنيفة حجة، والأحاديث المرسلة كثيرة وبناء على ذلك سيكون عندنا اختلاف بين الأئمة في الأحكام الفقهية والفتاوى، كما أن هناك اختلافا في عدالة الرواة، واختلافا في الاستدلال بالضعيف، ورواية الحديث باللفظ أو المعنى والرفع والنصب والضم، حيث اشترط أبو حنيفة أن يكون من يروي بالمعنى فقيها، بينما اشترط غيره أن يكون عالما باللغة العربية. وهذا وغيره يندرج تحت منهج الفقهاء في التثبت من اللفظ النبوي، كما أن صحة الحديث ليست شرطا للعمل به عند بعض الفقهاء، إذا كان في الباب غيره وقدموه على القياس، فضعيف الحديث خير من الرأي والقياس.

وناقش الشيخ عوامة قول الشافعي:

إذا صح الحديث فهو مذهبي،

وبين أن المقصود به من هو أهل لذلك وليس أنصاف المتعلمين، وكل من هبّ ودبّ، وأما مسألة "صحة الحديث تكفي للعمل به"، فقد بيّن أن كبار الفقهاء لم يفعلوا ذلك، وأنهم فضلوا التفقه على الإكثار من الحديث، ويقول ابن وهب "لولا مالك والليث لهلكت" لأنه كان يكثر من الحديث؛ فالفقيه هو ميزان العمل بالحديث وليس المحدّث، كما افتتحت المقال بقول ابن عيينة

الحديث مضلّة إلا للفقهاء.

وتناول الكتاب اختلاف الأئمة في فهم الحديث؛ إما لاختلاف مداركهم ومواهبهم العقلية، أو لأن لفظ الحديث يحتمل أكثر من معنى واحد، واختلاف مسالكهم أمام المتعارض من السنة ظاهرا، حيث إن من العلماء من دأب على الجمع بين المتعارضين بالتأويل والتوفيق، والجمع ليس بالأمر السهل، وله عند الحافظ العراقي 110 أوجه يكتفي معاصرون بواحد منها، أو القول بنسخ أحدهما للآخر، أو بترجيح أحدهما على الآخر، ومن العلماء من قدم الترجيح على القول بالنسخ، وكل ذلك "الجمع والنسخ والترجيح" لا يقدر على خوض غماره إلا كبار الأئمة المتقدمين.

كما اختلفوا نظرا لتفاوت اطلاعهم على السنة، وفي بحث الشيخ عوامة حول ذلك أشار إلى عدم كثرة الرواية عن بعض الفقهاء، وخصّ أبا حنيفة بالذكر، لما يثار حوله من شبهة في هذا الباب فنّدها الشيخ بشواهد بأن أبا حنيفة كان واسع الاطلاع على السنة وتحملها وحفظها مع أنه قليل الرواية، وبيّن حرص الأئمة على أخذ علومهم من السنة وبناء على ذلك بنوا فقههم واجتهادهم عليها، وكان للأئمة أسانيدهم الخاصة التي لا تتوافق بالضرورة مع أسانيد المحدثين، وأنه إذا فات الإمام شيء فقد استدرك تلاميذه وهذا نادر، ولا يجوز سحب النادر على الكل، كما دحض الشيخ محمد عوامة حجة وفرة الأحاديث في الكتب في هذا العصر لجعل الاجتهاد ميسرا للجميع.

وهذا ينسحب بالمناسبة على زمننا لمن يتحجج بوجود المكتبات الإلكترونية وسهولة البحث في فهارسها ومحتوياتها، كما شدد على طبيعة المجتهد وضرورة أن يكون صاحب عمل صالح وعبادة كثيرة وتقوى.

وأكد الشيخ محمد عوامة أن اتباع الأئمة هو اتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونبّه إلى خطر التنقل بين المذاهب بحجة وضوح الدليل، وأكد أن الفقه هو الدين لأنه الفهم والتفسير والشرح للكتاب والسنة.

 

هذا عرض مبسط سريع للكتاب لا يغني عن قراءته بتمعن، وهو أمر ميسور بمشيئة الله، مما سيفيدنا في الخلاص من كثير مما علق بأذهاننا حول اختلاف الفقهاء، الذي صار -وفق فهم مغلوط- ماضيا وتاريخا قضت عليه وسائل الطباعة والتخزين الإلكتروني وأجهزة الكمبيوتر وغيرها.

نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.