شعار قسم مدونات

الحاكمية بين رشيد رضا وأحمد شاكر..

Omran Abdullah - ولد رشيد رضا في القلمون اللبنانية وكان من رواد الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ويكيبيديا  - "الجمهورية الصينية" أو دار الإسلام بالنسبة لمسلميها .. رسائل وإجابات تجاهلها المؤرخون
Omran Abdullah - ولد رشيد رضا في القلمون اللبنانية وكان من رواد الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ويكيبيديا - "الجمهورية الصينية" أو دار الإسلام بالنسبة لمسلميها .. رسائل وإجابات تجاهلها المؤرخون (الجزيرة)

 

بدأ احتكاك المصريين بالعالم الغربي ثقافة وفكرا وسياسة منذ نهاية القرن الـ18 وبداية القرن الـ19، وتأثرت الدولة المصرية بالثقافة الغربية على مستوى القوانين والتشريعات، لكن الشريعة -لا سيما في الشق الجنائي- ظلت موجودة رسميا ونظريا في القوانين والمحاكم حتى سنة 1883م عندما أُسست المحاكم الأهلية. ثمّ بعد هزيمة ثورة عرابي والمشايخ المؤازرين له احتلت إنجلترا مصر، وتأسست المحاكم الأهلية التي استلبت المحاكم الشرعية جزءا كبيرا من اختصاصاتها.

وهنا تحديدا، بدأ تعطيل الحدود رسميا في المحاكم، لكننا لم نجد ردّ فعل عنيف من قبل مشايخ الأزهر حينئذ، سواء أكانوا داخل المؤسسة الرسمية أم خارجها. وغياب ردّ الفعل يدلّ على ما سنؤكده لاحقا من أن التعطيل العملي كان قد بدأ تدريجيا قبل تأسيس المحاكم الأهلية ببرهة من الزمن (بدأ تحجيم المحاكم الشرعية منذ العام 1848م)، أو بسبب أن فقهاء تلك الفترة اعتقدوا أن هذه الإصلاحات في سياق محاولات تعزيز نظام الشريعة ضمن الهيكلية العريضة للإصلاح، حسب عِزّة حسين.

 

رشيد رضا والحاكمية

لكنّ المفارقة أننا وجدنا فيما بعد معارضة شديدة لهذا النوع من المحاكم والقوانين من قبل بعض المعاصرين للشيخ رشيد رضا، حتى إنهم كفّروا القضاة العاملين في تلك المحاكم؛ فاشتبك معهم الشيخ رشيد رضا (توفي 1354هـ/1935م) في غير موضع، حيث قال: وإننا اليوم نرى كثيرا من المؤمنين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفارا أخذا بظاهر قوله تعالى:

﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾.

ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين والواضعين للقوانين.

ثم يعترض على تلك المقولة ويفنّدها بقوله "أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد قطّ؛ فإنّ ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا، سواء بغير ما أنزل الله تعالى أم لا. وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج".

ولم يقف السيد رشيد رضا عند ذلك، بل أباح العمل مع حكومة الإنجليز في الهند، والحكم بأحكام مؤسساتها القضائية، فيقول -في نهاية إجابته عن سؤال وُجّه إليه عن حكم العمل مع الإنجليز:

والظاهر -مع هذا كلّه- أنّ قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنجليزية في الهند، ومثلها ما هو في معناها، وحكمه بقانونها هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب أخف الضررين، إن لم يكن عزيمة يقصد بها حفظ مصلحة المسلمين.

ويبدو أن أناسا في عصره حرّموا التعامل مع الإنجليز أو العمل في حكومتهم، فردّ عليهم بذلك الكلام.

والشريعة عند رشيد رضا ليست منحصرة في تطبيق الحدود، وليست شاملة شمول الدين نفسه، حيث يقول -بعد أن ذكر عددا من الأقوال فيها- "وتحرير القول أن الشريعة اسم للأحكام العملية وأنها أخصّ من كلمة الدين، وإنما تدخل في مسمى الدين من حيث إنّ العامل بها يدين الله تعالى بعمله، ويخضع له، ويتوجه إليه، مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه". وهذا التعريف فقهي وعلمي، وليس سائلا أو اختزاليا، على نحو ما ذهب إليه كثير من الحركيين الإسلاميين فيما بعد.

لكننا وجدنا معارضة صريحة من أحد تلامذة الشيخ رشيد، وهو الشيخ أحمد شاكر (1892- 1958م)، وهو قاض شرعيّ تضرر كثيرا من تأسيس المحاكم الأهلية؛ ولذا اتهمه بعض المعاصرين له بمعاداة هذه المحاكم بسبب طغيانها على نفوذ المحاكم الشرعية ومن ثمّ تحجيم نفوذ قضاتها.

 

شاكر وتعطيل الشريعة

وإذا كان السيد رشيد رضا لم يُصرّح بأولئك الذين كفّروا المحاكم الأهلية وقضاتها، في ذلك الوقت المبكر، فإننا نرى تلك المقولة صريحة، عند تلميذه الشيخ أحمد شاكر.

فيقول أولا عن عدم جواز اعتماد القوانين الأوروبية: وإنَّ العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز، حتى فيما وافق التشريع الإسلامي، لأن مَن وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا أو لمبادئها وقواعدها، وجعلها هي الأصل الذي يُرجع إليه، فهو آثم مرتدّ بهذا.

ثم يجعل القوانين الغربية المعاصرة مثل قانون "ياسق التتار"، بل ربما كانت له الأسبقية في وصف المجتمع بالجاهلية، قبل سيد قطب (1906- 1966م)، فأومأ إلى ذلك بقوله: "إن النص في الدستور على أنّ دين الدولة الإسلام لا يمثّل حقيقة واقعة، إنما هو خيال ووهم، كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوروبا في الخيال والتمثيل، والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين.

ويرى شاكر أن الكفر قد شاع في بلاد المسلمين، فيقول:

نريد أن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث

اللذين شاعا في بلادنا، وفي أكثر بلاد الإسلام.

ويذهب في وقت مبكر إلى عدم العذر بالجهل، فيقول "إن من قدّم أي قانون أو أي رأي على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. وهذا شيء بديهي معلوم من دين الإسلام بالضرورة، لا يعذر بجهله أحد أيا كانت منزلته من العلم أو الجهل". وهنا يبرز شاكر منظرا من منظّري الجهادية الحديثة، قبل تنظير سيّد قطب لها. وكثير من الناس يغفلون دور شاكر في التيارات الألبانية والجهادية المعاصرة، لكننا نزعم أنه مركزي بمقولاته تلك، لا سيما وهو متفق عليه سلفيا، سواء أكانت السلفية العلمية أو الجهادية، وكثير من الجهاديين يحتفون به كمرجعية علمية لهم.

 

شاكر والتغيير الدستوري

لكن شاكر يختلف في طرائق التغيير، فيرى أن الدولة الدستورية لا مفر منها، باعتبارها ضرورة من ضروريات العصر، إلا أنه لا يؤمن بها من حيث المبدأ، أي على أنها خيار إستراتيجي، بل يؤمن بها على أنها خيار تكتيكي براغماتي، حتى يمكن تطبيق الشريعة المعطَّلة في نظره. فاختلف منهج شاكر عمّن جاء بعده من جهاديين في جزئية جوهرية، فأناط التغيير بالمشاركة السياسية والتدرج السلمي، وليس بالعنف والقوّة، فيقول:

وصارحتُ رجال القانون بأننا سنعمل بالطريق السلمي للوصول إلى الحكم دونهم إذا أبوا أن يصغوا لهذه الدعوة الحقة.

وارتأى أن السبيل الوحيد هو -حسب قوله- "السبيل الدستوري السلمي؛ أن نبث في الأمّة دعوتنا ونجاهد فيها ونجهر فيها، ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارا، بل سنجعل من إخفاقنا مقدمة لنجاحنا".

ومن قوله هذا يمكن قراءة موقفه الرافض بقوة لاغتيال النقراشي باشا (1888- 1948م)، فلم يكن مؤمنا بالعنف ضد الدولة ورجالاتها، لأسباب واقعية، ومقاصدية، وإن نظّر له.

 

أما موقفه من العدو البعيد فشابه -إلى حد كبير- موقف الجهاديين المعاصرين، فيوجِب قتلهم في كل مكان، حيث يقول "يجب على كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يحاربهم -أي الإنجليز- وأن يقتلهم حيثما وُجدوا، مدنيين كانوا أو عسكريين، فكلهم عدو، وكلهم محارب مقاتل..! أما التعاون مع الإنجليز بأي نوع من أنواع التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح..، ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان أو دليل أنّ شأن الفرنسيين في هذا المعنى شأن الإنجليز بالنسبة لكل مسلم على وجه الأرض. فإن عداءهم للمسلمين، وعصبيتهم الجامحة في العمل على محو الإسلام وعلى الحرب على الإسلام أضعاف عصبية الإنجليز".

وهذا الكلام وإن فُهم في سياق الاحتلال الإنجليزي والفرنسي للأقطار الإسلامية حينئذ؛ إلا أنّ عبارته صريحة في مواجهتهم خارج حدود الأقطار المحتلة، مما منح الجهادية المعاصرة مستندا يستدلون به، ويركنون إليه.

 

وقد بقيت مقولات شاكر حبيسة الكتب والدرس الحديثي، وربما أثّرت قليلا على بعض المشتغلين بالحديث تأثيرا ليس كتأثير الألباني -فيما بعد- عليهم، وسبب ذلك أن الشيخ شاكر لم يؤسس فرقة من التلاميذ والفاعلين الناشطين الذين يطبقون فكره وينشرون مذهبه، وأيضا لم يمارس العمل السياسي بمعناه العام، ولم يجهر بصوت المعارضة سوى في الدرس العلمي الذي لا ينعكس في أكثر الأحايين على المشهد السياسي والاجتماعي.

إذن كانت هناك جذور للحاكمية قبل المودودي وقطب، بخلاف من جعل إحياءها على يد قطب والمودودي أو حتى عبد القادر عودة، بل إننا نكاد نزعم أن مقولة الحاكمية لم تمت منذ أن ابتدعتها الخوارج، كما يقرر الشهرستاني (توفي 548 هـ/ 1153م) في الملل.

 

وخلاصة القول، أنّ النفَس الأصولي والفقهي والمقاصدي العقلاني، برز بشدة عند السيد رشيد رضا في تناول مسألة الحاكمية، بخلاف تلميذه الشيخ أحمد شاكر المحسوب على مدرسة أهل الحديث.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.