شعار قسم مدونات

هل تعود مصر إلى غزة من بوابة الإعمار؟!

المؤتمر الصحفي المشترك وزيري خارجية مصر والأردن (الجزيرة)

 

أن تكون فلسطينيًا يعني أن تحمل في قلبك ثأر أكثر من 70 عامًا من الغضب، وهذا الأمر في تفاصيله لا يستوعبه كثير من العرب لكن الفلسطينيين ترجموا قليلا منه في الأرض المحتلة والشتات حتى تمكنوا من انتزاع اهتمام العالم، وفرضوا على الرئيس الأميركي جو بايدن أن يغير جدول أعماله ويُجري 4 اتصالات مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو خلال11 يومًا هي مدة الهجوم على قطاع غزة ليجبره فيها على القبول بوقف إطلاق النار، ويرسل كبار مسؤولي البيت الأبيض ليبحثوا عن حلول لتهدئة الغضب الفلسطيني.

 

"لسعة الوعي" التي سببتها اليقظة الفلسطينية الأخيرة للمجتمع الاستيطاني الصهيوني، كما وصفها كبار الإعلاميين الصهاينة، أجبرت البيت الأبيض على إجراء أكثر من 60 اتصالًا بمسؤولين عرب للتوصل إلى حل لأزمة غزة، فقد أوجعت تلك الصفعة غربان التطبيع، وأجهزت على طموحات الإنجيليين بتنفيذ صفقة القرن، وأكدت للمستوطنين الصهاينة أن الصراع مع غزة لا يتعلق بفتح الحدود والمعابر بل إن غزة رأس حربة في المواجهة لاقتلاعهم من كل شبر من فلسطين المحتلة.

وبقدر ما اعتقد العسكريون الصهاينة أنها مجرد مواجهة ميدانية تضاف إلى 3 حروب سابقة على غزة، إلا أن الأمة العربية والإسلامية آمنت بأن معركة "سيف القدس" باكورة الخطوات لإدخال القدس المحتلة في معادلة الردع بين المقاومة والمحتلين الصهاينة، وفضحت أمام العالم هشاشة المنظومة العسكرية الصهيونية التي كان يعول عليها بعض مطبعي المنطقة لحمايتهم من إيران، بل وأحرجت الولايات المتحدة الراعي الرسمي لهذا الاحتلال، التي تغذيه بالمال والسلاح منذ عقود، وسببت شرخًا عميقا في أوساط الحزب الديمقراطي بين القيادة التقليدية التي يتزعمها بايدن ونانسي بوليسي والذين يؤمنون بالدعم اللامحدود وبين القيادة الشابة التي جسدتها إلهان عمر ورشيدة طليب وغيرها من الذين صرخوا عاليًا وسط الكونغرس للتضامن مع الفلسطينيين ووقف دعم الاحتلال الإسرائيلي.

كذلك صنعت المعركة الأخيرة معجزة حقيقية بأن وحدت أحرار الأمة كافة خلف خطاب المقاومة في غزة، وفضحت المتآمرين والمأزومين الذين لا يزالون مخلصين لدورهم الوظيفي في حماية المشروع الإسرائيلي في المنطقة، فقد رفعت الوعي تجاه القضية الفلسطينية وأخرجت كثيرا من الرسائل التي فضحت الانقسام وخيبة الأمل التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، وكشفت عن العجز السياسي الذي يعيشه النظام الرسمي العربي أمام تغول الاحتلال الإسرائيلي، وفرضت الصواريخ التي ضربت تل أبيب معادلة ردع أذعنت لها إسرائيل، بل وتوسلت الوسيط المصري الذي فرضته الجغرافيا على غزة ليقوم مع الهاشميين في الأردن بارتداء عباءة الاحتلال لتصميم مقترحات لوقف إطلاق النار تتناسب مع رغبات تل أبيب.

وأسهمت تلك المواجهة في تسديد ضربة قاسية للرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي وفرضت عناوين المعاناة الفلسطينية على جميع الشبكات الإخبارية العالمية وفي ملاعب كرة القدم الدولية وحتى على صفحات التواصل لعارضات الأزياء والسياسيين في الكونغرس وبرلمانات عالمية عدة، وتلك هزيمة تألم بسببها الصهاينة أكثر من أوجاعهم بسبب صواريخ غزة، وفقًا لمقال نشرته صحيفة جيروزاليم بوست. فالسردية التاريخية التي كانوا يراهنون عليها لكسب تعاطف المنظومة الغربية بكاملها تغيرت وبدأت تمرّ بمنعطف خطر، وهذا الأمر أكده نتنياهو في خطابه الأخير موجهًا قوله للعالم الغربي:

إذا انتصرت حماس فهي هزيمة للغرب.

 

استحضار المستوطنين الصهاينة للصراع الحضاري والعودة لحاضنتهم في المنظومة الغربية لاستجلاب الدعم والمساندة يذكرني بفوز الرئيس المصري الراحل محمد مرسي بالانتخابات التي تلت ثورة يناير، ففي اللحظة التي أُعلن فيها فوزه بدأت إسرائيل تستدعي الصراع الحضاري لإنقاذ نفسها، وبدأت سردية التسامح مقابل "الإرهاب" لتكون سلاحًا جديدًا على الإسلاميين في مصر وعلى الديمقراطية في العالم العربي.

واليوم بعد أن أصاب ميزان الردع خلل في إحدى كفتيه لمصلحة المقاومة ومسّ بصورة مباشرة مستقبل وجود الاحتلال الإسرائيلي وأدخل القدس ضمن معادلة وقف إطلاق النار بعد أن تعنتت إسرائيل على مدار عقود خلال مفاوضاتها مع السلطة الفلسطينية في إدخالها، وتجاهلت كثيرًا وصاية الأردنيين عليها، فإن المقاومة الفلسطينية ستواجه مؤامرة هي الأكثر خطورة في تاريخها، فحينما كانت منظمة التحرير في لبنان والأردن تقاتل إسرائيل تم إسقاطها في خلافات داخلية كبيرة من قبل النظام الوظيفي العربي وانتهى المطاف بها إلى الحصار السياسي والمالي وتصفية جميع الصقور فيها إلى أن أصبحت حمامة سلام في رام الله.

لذلك فإن التصريحات التي أطلقت من مصر وأوروبا والولايات المتحدة بشأن مساعدة غزة إنسانيًا وتصدير مصر لرعاية اتفاق التهدئة تكشف عن جملة من الحقائق تتعلق بدور قطري وتركي واضح في دعم ثبات المقاومة خلال السنوات الماضية، سواء بالمال أو الاستخبارات العسكرية والتدريب، وهذا الأمر دفع الإدارة الأميركية للضغط باتجاه استبعاد هاتين الدولتين من أي دور في الملف الفلسطيني، وتلك المعلومات ليست مجرد تكنهات بل مطالب ذكرها المعهد الأمني القومي الإسرائيلي في ورقة تقدير موقف أعدّها عن معركة "سيف القدس"، فصواريخ الكورنيت التي استهدفت المدرعات الإسرائيلية وصلت بطريقة غير مباشرة من تركيا، ولا يخفى على أحد أن أكبر مكاتب حركة حماس موجودة في مدينة إسطنبول التركية، والمال الذي حافظ على ممانعة غزة كان يصل من قطر، فالدوحة تعدّ من أوائل المبادرين في برنامج مساعدة السكان في القطاع منذ حرب 2008.

 

وفي الزيارة الأخيرة للوفد الأمني المصري لغزة بعد الحرب رغب الجانب المصري أن تقوم شركات مقاولات مصرية بعملية الإعمار ومن المعروف ان الكثير من هذة الشركات تتبع للجيش المصري بشكل أو بآخر وحتى الأن لم يتضح موقف حماس من هذة الرغبة المصرية.

 

أما الجانب الثاني الذي تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل لتحقيقه عبر الدخول المخابراتي المصري لغزة فيتعلق بالخنق المالي، لذلك رفضت الفصائل الفلسطينية أي مشاركة مصرية في هذا المسار وعلى الأرجح إذا تعنتت مصر في مواقفها واستمرت بالوقوف إلى الجانب الإسرائيلي، فإن المقاومة ستلجأ إلى العودة لحالة الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي لإعادة صياغة اتفاق جديد لإطلاق النار.

والمتابع للتفاصيل الميدانية في قطاع غزة خلال الحرب، فإنه يلاحظ أن إسرائيل عمدت إلى إحداث تدمير كبير في البنية التحتية واستهدفت أبراج سكنية تؤوي مئات الأسر فضلا عن الطرق والمباني الحكومية بما في ذلك جمعية الهلال الأحمر القطري، لغاية واحدة هي عدم إعطاء المقاومة الوقت الكافي للتفكير في المقترحات المصرية، والضغط عليها للقبول بالتوغل المصري من بوابة الإعمار.

 

لقد منحت غزة النظام السياسي في مصر ورقة قوية يمكن استخدامها أمام الولايات المتحدة لكنه يرفض الخروج عن الدور الوظيفي المخصص له مثله مثل غيره من الأنظمة السياسية في المنطقة العربية التي أخفقت حتى في المبادرة سياسيًّا لحماية المسجد الأقصى والمقدسيين، واكتفت بالقيام بدورها السلبي المعتاد، ولكن ما يمكن الختام به هو أن المعادلة تغيرت وما سطرته المقاومة بالدم لن تمحوه المؤامرات، فالفرق بين المقاومة والنظام السياسي العربي هو أن المقاومة لديها حاضنة شعبية فلسطينية وعربية وإسلامية بعكس غرمائها الذين أصرّوا أن تكون حاضنتهم دولة الاحتلال الإسرائيلي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.