القدس واللد ويافا والخليل؛ معالم تناولتها عينا داعية وتاجر سوداني مثقف قبيل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، ولكأن عبدالله حمد محمد خير (1897-1963) قد تنبأ بمسار القضية على المدى الطويل، والثورة الكبرى على المدى القصير؛ إذ قال -واصفا مشاعر الفلسطينيين-:
إن العرب يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم، ويعتزون بقوميتهم، ويفدونها بالنفس والنفيس، وستتمخض الأيام عن حوادث يسجلها التاريخ بمداد من دم الشهداء الأبطال.
وصاحِب الرحلة من أبناء أم درمان وطلاب معهدها العلمي، عمل بالتجارة، وكتب في الصحافة السودانية منذ نشأتها، وأسس جماعة أنصار السنة، ودعم بناء جامع جوبا بجنوب السودان، ودفعته العاطفة الدينية -بعد أداء الحج بعدة سنوات- لإتمام زيارة الأماكن المقدسة، وذلك بزيارة أولى القبلتين وثالث الحرمين، كما تداخلت لديه العوامل الحضارية كالاهتمام بالاطلاع على أحوال المسلمين والعمران في بلدانهم، وعادات النصارى في عباداتهم.
وقد دوّن رحلته المنطلقة من الخرطوم المنتهية بالقدس، فوثق للمحطات في الطريق والمدن وعمرانها، وطبائع الناس في مصر والسودان، رافقه في رحلته مصريان؛ هم أبو زيد حسن ومحمود الليثي، وتعرف إلى فلسطينيَين في يافا؛ هما عبد الحليم عبد العليم ومحمود أبو سمرة، وقد وثق معالم القاهرة وحلوان وطباع المصريين باهتمام.
أخذه القطار إلى اللد التي تلتقي عندها السكك، وحالها حال مدنية عطبرة، وما درى الشيخ ما ستفعله ثورة عطبرة وهبة اللد بعد 80 حولا من زيارته تلك، وقد فتنته طبيعة الشام، فاستحضر مثلا سودانيا مندثرا يقول "يا من خلقت الشام، اجعل كل البلاد عند أهلها شام"، أما الفلسطينيون فيصفهم قائلا "كلهم يثقون بأنفسهم، ويتمنون يوم الامتحان، لا ترى عليهم علامات الجبن والخور، ولا هم باليائسين".
أما الأقصى ذاته، فقد حظي بتوثيق دقيق شمل مصلياته ومحاريبه، وطريقة الزيارة والأدعية المعتادة، ولم يفته رصد حائط المبكى، وما يفعله الصهاينة عنده من جعله سببا للشقاق والفتنة.
بل وثق الشيخ لنا منظر منبر صلاح الدين الأصلي قبل إحراقه، فالمنبر "من خشب الأبنوس، وإنه آية من آيات الجمال وحسن التركيب، وبه كثير من النقوش، وكذا المحراب، فبه النقوش المحلاة بماء الذهب"، أما الكتابة عليه فتقول "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارة هذا المحراب المقدس والمسجد الأقصى -الذي هو على التقوى مؤسس- عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسأل الله شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة".
حرص الشيخ عبد الله على الحديث إلى الإمام مشيدا به، حيث كانت خطبته قوية وطنية وبليغة، وأفاض الإمام في الحديث عن فلسطين وهمومها حينذاك، وأعتقد أن الإمام المقصود هنا هو الشيخ حسن أبو السعود (1897-1957) مفتي الشافعية، ورفيق الحاج أمين الحسيني.
ثم عرّج على الخليل، فزار المسجد الإبراهيمي، وانطلق حتى وصل البحر الميت متتبعا المزارات، ثم زار الكنائس المسيحية الهامة، فزار بيت لحم وكنيسة المهد بها، ثم زار كنيسة الجسمانية -يسميها ابن بطوطة في رحلته الجثمانية-، وكذلك كنيسة مريم عليها السلام، وقرأ على القبر المنسوب لها الفاتحة، وقد انتهت رحلته بيافا، التي ذاق شايها، وفاته -متأسفا- بطيخها.
ولم تخل كتابات الشيخ عبد الله من اهتمامات فقهية، فقد حرص على الصلاة في المساجد التي بها أضرحة منفصلة عن المسجد، كما أدان البدع والموالد وما يصاحبها من شركيات، وتألم لحال طلاب السودان في رواقهم السناري بالأزهر لقلة مواردهم المالية داعيا لإيجاد حل لذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.