شعار قسم مدونات

الأعمار الضائعة.. ومصيدة الغربة

 

الاغتراب مصيدة يقع فيها الكثيرون طواعية وهناك من يضطر إلى دخولها، وكم سرقت الغربة من أعمار، وكم بخرت من أحلام، وكم دمرت من أسر، وفي المقابل هناك ناجون منها حققوا أهدافهم بعيش كريم في الغربة، أو العودة إلى أوطانهم بمكاسب مادية وخبرات حياتية.

 

الوقوع في مصيدة الغربة

في الغربة -ولا شك- فوائد متعددة منها توسيع قاعدة المعارف، والتعرف إلى ثقافات مختلفة، وجني عوائد مالية مجزية من العمل الحكومي أو في القطاع الخاص أو العمل الحر، وكثيرون حققوا نجاحات في الغربة لم تكن لتتحقق لو ظلوا في أوطانهم والأمثلة على ذلك كثيرة، وعن فوائد الاغتراب يقول الإمام الشافعي رحمه الله:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا

وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

*****
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ

وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

والاغتراب له نوعان أولهما الاغتراب الطوعي الذي يسافر فيه الفرد من بلده إلى بلد آخر لكسب الرزق أو للدراسة، ويفترض في هذا النوع من الاغتراب أن يكون لمدة محددة، وثانيهما هو الاغتراب القسري الذي يضطر فيه الفرد إلى ترك بلده رغمًا عنه نتيجة التضييق عليه في عمله ورزقه، أو في ممارسة حقوقه وحريته في التعبير، أو نتيجة التهديدات والملاحقات الأمنية، أو عندما تكون حياته معرضة للخطر بسبب الحروب والصراعات الداخلية.

وكثيرون ممن أدمنوا الاغتراب سنوات طويلة كانت خطتهم للسفر لمدة محددة يستقرون بعدها في أوطانهم، ولكن الغالبية منهم يقعون في شرك الاغتراب ويستمرون عقدا وعقدين وربما 3 عقود، وآخرون لا يسعهم الوقت للعودة وهم أحياء ويعودون إلى أوطانهم في توابيت.

والسبب الرئيس في طول مدة الاغتراب هو عدم وجود خطة وهدف من الاغتراب، ويكون الغرض هو جمع بعض المال لبناء بيت أو شراء شقة، ثم جمع بعض المال للزواج، وبعد ذلك جمع بعض المال للإنفاق على الأسرة وعلى الإجازات السنوية، وتمرّ الأيام ويصبح المغترب غير قادر على العودة والاستقرار في موطنه، وتضيع عليه كثير من الفرص، ويُحرم من زوجته ومن أولاده الذين يكبرون في غيابه، ويحرم كذلك من عائلته ومن حياته الاجتماعية.

 

أخطاء المغتربين وخسائر الغربة

ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من المغتربين الاعتقاد أن العمل أو الإقامة في الغربة سيدومان وبخاصة في الدول التي لا تمنح الجنسية أو أي امتيازات للمغتربين، وهؤلاء يصابون بالصدمة عند الاستغناء عنهم؛ لأنهم كما يعتقدون أفنوا زهرة شبابهم في العمل سواء في القطاع الحكومي أو الخاص في دول يعدّونها وطنهم الثاني، في حين يعمل غيرهم من الجنسيات الأخرى بأقل جهد ممكن وبامتيازات أكبر!

ومن هذه الأخطاء التقتير على النفس في النفقة من أجل ادّخار مزيد من المال، أو محاولة مجاراة أهل البلد في المستوى الاجتماعي الذي يعيشونه وبخاصة إذا كانت المظاهر الاجتماعية تُمول بالاقتراض من البنوك.

ومن أخطاء المغتربين عدم استغلال أوقات الفراغ في التعلم واكتساب مهارات جديدة، ومن الطرائف التي يتبادلها المغتربون أن شخصًا سأل مغتربًا: ماذا تعلمت من الغربة؟ فرد عليه قائلًا: أن أضع كوبين من الماء لكل كوب من الأرز!

ومن أخطاء المغتربين مجاراتهم الصورة النمطية للمغتربين في بعض الدول على أنهم يعبّون المال عبًا وينفقونه بلا حساب.
ومنها التسويف في قرار العودة إلى الوطن، وقد كان والدي رحمه الله شجاعًا وحازمًا عندما قرر العودة إلى وطنه بشكل نهائي، وهو قرار صعب على كثير من المغتربين.

وخسائر الاغتراب كثيرة فبعض المغتربين يخسرون صحتهم، وبعضهم يخسر أسرته، وبعضهم يخسر حياته الاجتماعية ويخسر الصداقات التي كوّنها على مدار سنوات طوال، وبعضهم يخسر الكثير من الفرص في بلده سواء التعليمية أو الاستثمارية.
والخسارة الأكبر هي خسارة المغترب شبابه وحياته عندما يؤجل الاستمتاع بها انتظارًا للحظة العودة إلى الوطن للتمتع بها، فالمغترب يحرم نفسه من أمور كثيرة يمكن أن تكون سببًا في سعادته وسعادة من حوله بحجة أن إقامته سنوات طوالا في بلد الاغتراب مؤقتة!

وخسارة المغترب لنفسه يعقبها خسارته لأولاده وأسرته، والأب في هذه الحالة تنظر إليه الزوجة -إن كانت مادية- والأولاد على أنه صراف آلي ومجرد مصدر للمال لإنفاقه يمينًا وشمالًا، وهناك حالات يُرغم فيها المغترب من قبل أسرته على السفر من أجل توفير الرفاهية لزوجته وأولاده!

 

الاغتراب الناجح

للغربة فوائدها الجمة ولجني هذه الفوائد ينبغي لمن يفكر في الغربة أن يضع لنفسه جملة من الأهداف ويعمل على تحقيقها في مدى زمني محدد حتى لا يتسرب العمر من بين يديه، ثم يجد نفسه بعد مرور سنوات طوال في الغربة وقد خرج منها وهو خاوي الوفاض لم يحقق شيئًا مما كان يصبو إلى تحقيقه عندما فكر في الاغتراب.
وكسب المال -على الرغم من أهميته- لا ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للمغترب، وعليه أن يسعى إلى تعلم مهارات جديدة تفيده على المستوى الشخصي وتفيد أسرته وتفيد مجتمعه، ونصيحتي للموظفين في الأرض وبخاصة المغتربين: كن جديرًا بالوظيفة التي تعمل بها، وكن مستعدًا لتركها، فقرار العودة النهائية بحاجة إلى إرادة وحزم ولا بد من التخطيط له من أول يوم في الغربة.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان