شعار قسم مدونات

سجال أهل السودان بين علمانية أتاتورك وأردوغان!

من أتاتورك حتى أردوغان.. مواسم البحث عن الهوية

 

شاهدت مقطع فيديو، وهو مقابلة قديمة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يشرح فيها مفهوم العلمانية التي يطبقها، وقد وجد فيه دعاة العلمانية في السودان شيئا من سلوى جراء ما نالهم من نقد لاذع على إثر الاتفاق الذي وقعه كل من الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة عن الحكومة السودانية وعبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية شمال، وكان فحوى الاتفاق اعتماد العلمانية نظاما سياسيا لحكم السودان وفصل الدين عن الدولة، وقد قوبلت الاتفاقية بعاصفة من الجدل السياسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسم السودانيون بين مؤيد لهذه الاتفاقية باعتبارها تحقن الدماء، وبين رافض لها باعتبارها حسمت قضية مصيرية تتجاوز تفويض الحكومة الانتقالية. وفي سياق دفاعهم عن اتفاقية البرهان الحلو يحاول دعاة العلمانية استدعاء مقولات الرئيس التركي عن العلمانية عسى أن يجدوا فيها ما يسعف موقفهم.

 

 

في هذه المدونة سنلقي الضوء على طبيعة علمانية أردوغان من جهة، مقابل علمانية أتاتورك من جهة أخرى، والتي تعتبر نبراسا للعلمانية عند العلمانيين العرب. كما سنعرف لماذا يُنظر إلى العلمانية الأردوغانية بالريبة والشك من قبل العلمانيين العرب عموما والغربيين خصوصا، مع سعي الفريقين لمنع تكرار نموذج العلمانية الأردوغانية في بلاد عربية سواء أكانت السودان أو غيره.

هل أردوغان علماني فعلا؟

يخطئ بعض الناس عندما يتوهمون أن العلمانية التي يسعى لتطبيقها العلمانيون العرب -ومنهم السودانيون- هي تلك التي يتكلم عنها أردوغان، فالعلمانية عند أردوغان تعني أن تقف الدولة على حياد من المعتقدات السائدة في المجتمع، بمعنى علمانية الدولة، ولكن لا يمكن للأفراد أن يكونوا علمانيين بما في ذلك الحاكمين، وهذا يعني أن على أفراد المجتمع ممارسة معتقداتهم وقيمهم دون تغول على غيرهم ولا تتدخل الدولة بفرض نسخة معينة من التدين على الناس، وهذا هو رأي زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، علما أن أفكاره تشكل ركيزة أساسية في فكر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

 

قارنوا هذه العلمانية مع علمانية كمال أتاتورك التي رهنت مصالح الدولة التركية لصالح الغرب، وكانت مهمتها الأساسية اجتثاث الدين الإسلامي من المجتمع التركي، من خلال محاربة الحجاب والتدين، مع نشر الفساد ومحاربة دعاة الإسلام، فضلا عن الفساد المالي والإداري. إن علمانية أتاتورك قتلت عدنان مندريس شنقا بعد انقلاب 1960، وهو رئيس وزراء منتخب، بدعوى تهديد العلمانية، فهل تعرفون ماذا فعل عدنان ليهدد العلمانية؟ إنه أعاد الأذان باللغة العربية بعد أن حوله أتاتورك إلى اللغة التركية، وجلب عائلة السلطان عبد الحميد من أوروبا، حيث كانوا يعيشون هناك في فقر مدقع، فجاء بهم إلى تركيا وفرض لهم مصاريف من الدولة، وكل هذه هي جريمته التي ارتأى العلمانيون أنها تهدد الدولة العلمانية!

إن العلمانية الأتاتوركية هي التي انقلبت على نجمة الدين أربكان عام 1997، وحرمته من ممارسة السياسة لمدة 5 سنوات بدعوى أنه يهدد العلمانية، حتى جاء أردوغان إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية عام 2003، وكانت وقتها العلمانية الأتاتوركية تحرم دخول الطالبات المسلمات بحجابهن إلى حرم الجامعة بدعوى أنهن يهددن العلمانية من خلال قطعة القماش التي يضعنها فوق رؤوسهن.

وما يقال عن علمانية أتاتورك ينطبق على علمانية طغاة الحكام العرب الذين حاربوا القيم الإسلامية بلا هوادة ونشروا الفساد والرذيلة بدءا ببورقيبة في تونس، ومرورا بالقذافي وفراعنة مصر وسوريا والعراق وغيرها. وقد كانت أغلب البلاد العربية محكومة بعلمانية أتاتوركية بشعة أوسعت الناس إفقارا ونهبا لثروات البلاد لصالح قوى الاستعمار التي خرجت من الباب الأمامي ورجعت من الباب الخلفي.

 

أما العلمانية الأردوغان فتحترم قيم الشعب وتعزز مفهوم الجماعة الوطنية، لدرجة أن المعارضة السياسية هي من دافع عن حكومة أردوغان عندما تعرضت للمؤامرات. وعلمانية أردوغان هي التي رفعت تصنيف الدولة التركية من رقم 110 إلى العشر الكبار، وهل تعرفون أن علمانية أردوغان توفر 3 وجبات يوميا للفقراء وتحت إشراف اختصاصيي الأغذية؟ والطعام يوزع للفقراء مجانا في بيوتهم حفاظا على كرامتهم، وهل تعلمون أن علمانية أردوغان توفر الحليب الطازج مجانا في الأحياء؟ وهل تعلمون أن علمانية أردوغان توفر المأوى الدافئ للقطط والكلاب الضالة في الطرقات والأماكن العامة وتنثر القمح فوق رؤوس الجبال في الشتاء للطير؟ إن العلمانية الأردوغانية أدخلت كل مواطن تركي تحت غطاء التأمين الصحي، لدرجة أن الزائر لتركيا إذا أصيب يعالج في مستشفيات الحكومة مجانا.

 

إن العلمانيين العرب عموما والسودانيين خصوصا لا يؤمنون بالعلمانية التي يؤمن بها أردوغان، والدليل على ذلك أن دعاة العلمانية في العالم العربي هم ألد أعداء أردوغان، فقد حاولوا مرارا وتكرارا إسقاط "علمانية" أردوغان من خلال تخريب الاقتصاد التركي، فكانت أزمة الليرة التركية في 2018، ومن خلال دعم انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 ضد الرئيس أردوغان، ولكن الشعب التركي وقف لهم بالمرصاد، وقد شهدنا لحظتها هستيريا احتفاء الإعلام العربي "العلماني" بنهاية حكم الرئيس "الإخواني" في تركيا.

والعلمانية التي يسعى العلمانيون العرب لنشرها هي تلك العلمانية الأتاتوركية التي تعادي القيم الإسلامية بالضرورة وتنشر الفساد الأخلاقي، بدليل أن القادة الجدد في السودان منذ أن تولوا زمام الأمور بدؤوا بتغيير القوانين حتى انتهت شوارع الخرطوم إلى ما نحن فيه الآن من انفلات أمني وأخلاقي وانتشار الخمور والمخدرات والدعارة، وقد شكا مدير شرطة ولاية الخرطوم من هذه الظاهرة، مناشدا الجهات المعنية بضرورة إعادة قانون النظام العام مع إجراء التعديلات اللازمة عليه بما يتماشى مع روح الثورة السودانية، فكانت النتيجة أن أقالوه بعد يومين فقط من هذه التصريحات، فلو كان علمانيو السودان الذين يقبعون على هرم السلطة يقصدون علمانية أردوغان لبدؤوا بإصلاح الخدمة المدنية وإرساء دعائم الحكم الرشيد وسلطة القانون، لكنهم ذبحوا القانون من الوريد إلى الوريد من خلال ما يسمى بلجنة إزالة التمكين التي تمارس السلب في وضح النهار بعيدا عن القانون.

 

إن تطبيق العلمانية الأتاتوركية في السودان إن لم تكن مستحيلة ستكون صعبة جدا، لأن الشعب السوداني مسلم وأوعى من أن تنطلي عليه ألاعيب النخب "العلمانية"، وبنفس القدر فإن التجربة الإسلامية في عهد الإنقاذ أثبتت أن الإسلام أكبر من أن تتبناه جماعة أو حزب، مما يعني أن فرص العلمانية الأردوغانية واسعة جدا في السودان، وهي الأقرب إلى روح الإسلام، غير أن التجربة التركية في أي دولة مسلمة ستُجابه بمعارضة شديدة من الغرب لأنها أولا تستند إلى إرادة الشعب، وثانيا تستنهض القدرات الذاتية للدولة لتحقيق النمو الاقتصادي القائم على التصنيع والبحث العلمي، وهذا كله يعني بالنسبة للغرب الخروج من بيت الطاعة، وهو أمر لن يُسمح به. وقد صدق الدكتور الشنقيطي عندما قال:

العلمانيون الماليزيون والأتراك يرفضون حكم الله ويقبلون حكم الشعب، ولكن العلمانيين العرب يرفضون حكم الله وحكم الشعب.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.