شعار قسم مدونات

لبعض الوقت.. لا بأس بترك الجرح مفتوحا

 

قلت لها بعض المواقف تظهر لنا أننا لسنا بالطيبة التي كنا نعتقدها، لسنا قادرين على أن نعفو ونغفر كما كنا نفعل دائما، حتى قُدرة النسيان تتلاشى، ونجد أنفسنا نستغرق في بعض التفاصيل، التي تُنِعش مشاعر الكره، وربما دفعتنا بقوة إلى أن نُكِنّ شيئا من الحقد، فَتَسْوَّد قلوبنا من حيث لا ندري.

أطرقت صديقتي طويلا ثم أجابتني بهدوء:

بعض الجروح يا عزيزتي لا بد أن تبقى مفتوحة بعض الوقت؛

أليس هذا ما يفعله الأطباء في بعض حالات التعفن وانتشار الالتهاب واشتداده؟ ألا يعطونه بعض الوقت حتى يتعافى قليلا ويخرج الصديد كله ثم بعدها يخيطون وهم مرتاحو البال؟

قد ينزعج المرضى من ذلك، ويقلقهم بقاء الجرح مفتوحا؛ لكن بعض الأمور لا يمكن علاجها على عجل، بعض الأدواء تفرض على الطبيب أن يتريث حتى لا تقع الكارثة، بعضها يحتاج أن يُبرَّد -كما نقول- حتى نستطيع التدخل بأمان.

لا يمكن لمن لا يتألم أن يعرف معنى الألم، لا يمكنه أن يستوعب لفظ المعاناة، لذا لا تخجلي من مشاعرك المحترقة، إنها تخبرك أن قلبك ما يزال لينا، ولم يتحجر بعد. عندما يشتكي الإنسان -يا عزيزتي- من ألم ما، يَطلب الأطباء من المريض أن يحدِّد لهم مقدار ما يشعر به، لا يحق لهم تحديد مقدار الألم والحكم على شعور المريض بالصواب أو الخطأ، المعيار الوحيد عندهم هو المتألِم، فوحده يستطيع وصف ما يحس به، هو وحده من يعرف أن ما يُنفِّس ألمه أن يئن بهدوء أو يبكي بصمت أويصرخ ويستغيث أو يقلب الدنيا رأسا على عقب؛ لأن الأمر تجاوز حدود تحمله. لذا لا بأس بأن تبحثي عن متنفس لتلك النار التي تُضرم داخلك، حتى الأرض تتنفس براكين؛ بل تقذف حمما كي تحافظ على وجودها وإلا انفجرت.

 

لا بأس أن يستمر كرهك وغيظك وحتى حقدك لبعض الوقت، تلك النفس في داخلك انكسرت، ويحتاج كسرها بعض الوقت ليجبر، مشاعرنا خيل جموح ليس من السهل ترويضها كيف نشاء، الأهم أن نمسك الجوارح أن تعصي الله، ولنترك لقلوبنا بعض الوقت لتئن وتتألم، لا داعي لأن نُجْبِرَهَا على أن تكون ذلك الرجل الحكيم طوال الوقت، فذلك يُقسِيها ويحولها إلى صخر.

أخبري قلبك أن الخذلان والخيبة والخداع والخيانة وغيرها من مسوخ الأخلاق من المقادير التي يبتلى بها الإنسان عاجلا أو آجلا، ربما نخسر فيها بميزان المادة؛ لكن في ميزان الأرواح نحن من ربح الحرب، من يَخدَع ويَخذل ويَخون هو المنهزم؛ لأنه فارغ من القيم، خال من الأخلاق، فلتطبطبي على نفسك وتواسي قلبك، وحتى لو أصر العقل على استذكار لحظات السذاجة ومواقف الإهانة، فلا بأس بتقبل الأمر، كل تلك الغيوم التي تحجب عنك شمس الأمل ستمطر نسيانا يغسل تلك الذكريات الحالكة، وستَهُبُّ عليها رياح لطف الله سبحانه؛ ليسفر وجه السماء، وتشرق شمسك من جديد فانتظري الغيث ولا تقنطي.

 

كانت كلماتها بلسما لي، جعلتني أشعر بالارتياح؛ وأنني لست بالسوء الذي كنت أعتقده، قَبَّلْتُ جبينها وشكرتها، شدت على يدي وقالت سأعطيك نصيحة أخيرة، لا تضعي نفسك تحت مجهر من يؤذيك. سألتها كيف؟ أجابتني قراراتك ومشاريعك وأفكارك لا تقحميهم فيها، لا تُحَطِّمي نفسك وأنت لا تشعرين، تحسبين نفسك على حق وأنت في ضلال مبين؛ يخسر الإنسان حقا عندما يجعل من آذوه حكاما على أفعاله، وهو لا يدري، فيُكِنُّ في نفسه الرغبة في إبهارهم وإدهاشهم أو إثارة غيظهم أو زرع الحسرة على خسرانه في نفوسهم أو إخبارهم أنه أصبح أفضل بعد ابتعادهم. والحقيقة أنه من أجل هذا سيُخالف نفسه، ويفقد تميزه، ويدفن تفرده، وقبل ذلك يذبح طيور حريته بيديه، عندما يبحث عن قيمته عند من جرحوه؛ لذا راقبي نواياك جيدا، ومَحصي الغايات وراء ما تُقْدِمِين عليه، وسأزيدك من الشِّعر بيتا لا تتركي الجرح مفتوحا إلا لبعض الوقت، لا تجعلي الأمر يطول، فيصعب التئامه، ويبقى الأثر قبيحا كلما نظرت إليه حزِنت. بعض الوقت الذي حدثتك عنه اجعليه قصيرا قدر ما تستطيعين، وواصلي السير بعدها كأن شيئا لم يكن، ارفعي المرساة يا عزيزتي فقدر السفينة أن تبحر من جديد إلى مكان أجمل.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.