شعار قسم مدونات

تجمّلْ بالصَّمت

مدونات - الصمت

 

عندما يتكلم الإنسان يضع الآخر تحت احتمالين، إمّا أن يؤكد فرضيته الأولى عنه التي تتوافق غالبا مع شكله وهيئته وملامحه، وإما أن يكتشف مفاجآت كانت مدسوسة بعناية خلف ابتسامة صفراء أو بذلة أرستقراطية أنيقة. وهذا بالضبط ما تحدث عنه الفيلسوف أرسطو حين قال:

تكلم حتى أراك.

فالكلام هو السبيل الأبلغ للتواصل بين الجنس البشري، ورغم أننا صرنا مؤخرا نتحدث عن أزمة التواصل أو قلة الكلام، فإننا لا نزال نصادف أناسا لا يعبرون عن وجودهم بشيء غير الكلام.. حيث تجدهم يدمنون على تحريك ألسنتهم منذ الساعات الأولى من اليوم.. يُنقِّبون عن مواضيع جديدة، عن ملفات مشبوهة، عن حوادث أو مناسبات متعددة..

وتجدهم تارة ينتقدون وكأنهم عقارب تكلمت بدل أن تلذع.. كلاب ملئت بطونها بما لذ وطاب ثم عضت يد ذاك الذي أطعمها وروَّضها وآواها.. وتارة يُبجِّلون أناسا أتفه منهم، يُلْبِسونهم رداء البطولة والشرف رغم أنف ماضيهم الأسود وحاضرهم اللئيم.. يدافعون عنهم بهمَّةٍ واستماتة وكأن الأمر يتعلق بشرف مغتَصَب أو أرض مسلوبة..

 

واذا كان قوت جسدنا اليومي هو الأكل الحلال المعتدل، وزادنا الروحاني هو الإقبال على العبادات،  وحَمْدُ اللهِ على نعمه الكثيرة.. فمثل هؤلاء البشر يقتاتون من الكلام.. يصنعونه ويؤلفونه ثم يُخرجونه بعنفوان من أفواههم النارية.. وكل مُناهم أن يجدوا آذانا صاغية، وضحكات متعالية، وقهقهات عنوانها السخرية والأذية المقصودة..

هم يتكلمون ويُسَخّرون كل طاقاتهم وأعضائهم من أجل هذه الغاية الكبرى. حيث تجد أعينهم تتحرك ذات اليمين وذات الشمال، وآذانهم بها تركيز خجِلتُ أن أشبِّهه بذاك الذي يجتاح طبيبا جراحا خلال عملية دقيقة.. وألوان وجوههم ترقص بين الحمرة والصفرة والزرقة.. هم يخشون الانكشاف أو  الوقوع في الخطأ مع أنهم فيه منغمسون، يتفادون المواجهة لأنهم لا يملكون ولو ذرة من الصدق، بل لا يعرفون من هم ومن يكونون..

قد تتعدد الأوصاف إلا أننا لن نختلف على كونهم أشخاصا غير أسوياء.. يقصفون ذات اليمين وذات الشمال، ويتلاهون مع سفر هذا وزواج ذاك لكي لا يعودوا لحالهم! يهدون ابتسامة للكل، وبعدها قذف ودمار، لا لشيء إلا ليعودوا لأنفسهم وليجدوا انعكاسا صادقا للؤمهم..

 

فكيف لنا أن نفسر سلوك شخص يعيب حتى على الهدية.. يغتاب ليس فقط جارا أو صديقا، بل كذلك أما وأبا وأخا.. يبحثون في كل المواقف الجميلة عن موطن نقص، وإذا لم يجدوه ثاروا وسخِطوا وافتعلوا مشكلا وألصقوه بالضحية..

هو إذن تصالح مع الذات في صيغته السلبية، هو وجود عبثي، الغاية منه الانشغال بالكلام..

 

وفي انتظار أن يصمتوا، تضيع أيامهم وتخذلهم الأعمار.. يرون بأم أعينهم أولئك الذين اغتابوهم يحققون أحلامهم، ويمضون بثبات في درب الطموح.. قد يرون من كانوا البارحة رُضَّعا قد أينعوا، وتفتقت مواهبهم، بل قد تجاوزوهم طولا ولا يزالون يحترمون غباءهم ويخجلون من مواجهة أعينهم الماكرة أو من نسف ثروتهم المسكينة..

وكم أود يوما لو أجمعهم وأضرب لهم موعدا مع شخص مهم.. شخص تناسوه وقسوا عليه.. حَوَّرُوه وضيَّعوه وسلبوا الصدق من عينيه..

كم أود لو أستقبلهم ثم أفتح لهم باب غرفة كبيرة مليئة بمرايا تحمل أسئلة وجودية من قبيل: من أنت؟ ماذا بعد؟ إلى متى؟..

كم أود لو أهمس في آذانهم وأقول لهم: كفى.. كفاكم تيها مع الآخرين.. اربطوا ألسنتكم، لكن أخبروني قبل ذلك من تكونون! وما الذي أغرقكم في بحر الأوهام!

أودهم أن يعلموا، هم الذين انشغلوا بالعباد ونسوا الكتب ومنابع الثقافة، أن الصمت هو في حد ذاته لغة نقول بها ما لا يطيق الكلام احتواءه من مكنوناتنا، هو فن نتفادى من خلاله مواجهة التافهين ومجابهة أولئك الذين كبروا ولم تنضج عقولهم.. هو أيضا منحة لا يُدركها إلا أولي الألباب، وخير مثال على ذلك نبي الله زكرياء (عليه الصلاة والسلام) الذي أكرم نفسه بالصمت ثلاثا رغبة منه في حمد الله تعالى على هبته وعطائه..

الصمت أيضا علاج يعود تاريخ اكتشافه لأزيد من ألفي سنة، يبدأ بتمارين تنأى بك عن التفكير الزائد لتأخذك إلى عالم التدبر في ملكوت الله أو التأمل في أشياء تريحك، بدلا من كلام يمر كشفرة حادة على جوارحك، وتعيش به الألم مثنى وثلاثا ورباعا..

 

دعونا إذن نتجمل بالصمت.. نُجيب بابتسامة.. نُحب بنظرة ونكره بكلمات صامدة نهزمها ونتركها حبيسة مصفدة في لاوعينا الدفين.. نقبرها حية قبل أن تكتب نهايتنا الإنسانية أو تجعل منا ذرعا لأذية البشرية.. ولنُطلق العِنان لكلمات دافئة قد تشفي جراحنا العميقة، أو تنقذ علاقات كانت على شفا حفرة من الانهيار، أو ترمم أناسا انطفؤؤا من كثرة الإهمال..

دعونا نتكلم حبا، ونتغزل جهرا، ونطبطب بأعلى الأصوات..

فبالكلمة الطيبة نسعد ونشفى ونرتقي ونضمن استمرارنا عيش قلوبٍ قد تستمر في حبنا حتى بعد الموت..

وهل كان الله ليهبنا ثغرا واحدا محكم الإغلاق بشفتين، وأذنين اثنتين دائمتي الانتفاح هباء منثورا؟

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.