حكم الجنرال فرانسيكسو فرانكو إسبانيا بيد من حديد ما يقرب من 36 سنة، وأدار المستعمرات بجنرالاته الموالين لرؤيته ونمط تدبيره وسياسته، وكان للمغرب نصيب من محنة الابتلاء بالعقلية العسكرية لهذا الجنرال، الذي وسم ملف الصحراء المعقد بنوع من السياسة الاستعمارية الصلبة، وبالتبع، طبيعة العلاقة مع المغرب والمغاربة.
ورغم كونه ورث ملف الصحراء عن حقبة استعمارية سابقة لانتصاره في الحرب الأهلية وتزعمه رئاسة الجمهورية، فإنه استن نهجا استعماريا استغلاليا للمنطقة، وبالأخص خلال الحرب الباردة، وفي السنين الخمس الأخيرة من حكمه التي شهدت طفرات هامة على مستوى العالم الثالث والعالم المتقدم على السواء، وصار ينظر لوجود إسبانيا فيما وراء المتوسط والأطلسي لما بعدية تصفية الاستعمار، أمرا غير مقبول، ولا يماشي متطلبات شعوب حقبة الستينيات والسبعينيات، وكانت هذه الدعاوى لا تزيده إلا تصلبا وعنادا وتجاهلا.
ففي الداخل، شن حملة تكميم الأفواه وضرب الطوق على الصحافة والرأي العام. وخارجيا، أبدى نزوعا نحو رفض مقولات التغيير والانتقال الديمقراطي والحداثة السياسية، وانتهج مقاومة شديدة ضد الرأي القائل بمغربية الصحراء وسيادة السلطان ونظام البيعة في الأقاليم الصحراوية، كما كان الخلاف على أشده مع المغرب حول مطالبه القانونية والشرعية في صحرائه، واستعصم بالنمط العسكري في الحكم إلى أن وافته المنية يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1975.
الطور الانتقالي
انطلق العهد الديمقراطي في إسبانيا على إيقاع شارع سياسي مضطرب، ويسار يمارس التشفي، ويمين محافظ يناور ويزايد، واختلاف جذري بين قادة الداخل (الشباب) والقادة السياسيين الموجودين في المنفى الفرنسي، وتأثر بنجاح ثورة القرنفل في البرتغال سنة 1974، والثورة اليونانية في نفس السنة.
لقد مثل يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 حدثا استثنائيا في التاريخ الراهن للجارة الإيبيرية، حيث عادت الملكية البوربونية في شخص الملك السياسي خوان كارلوس إلى مقصورة الحكم في البلاد، عقب وفاة الجنرال الصارم.
ورغم أن الملك المعزول سابقا دون خوان دي بوربون كان مقيما في مدريد، فإن رياح الحالة السياسية في إسبانيا جرت بما لم يكن يشتهيه (الدون)، وآلت الأمور لابنه، الذي شاءت الأقدار أن يتولى الحكم على الطراز الإنجليزي في مرحة دقيقة وحرجة، أدارها بكفاءة واقتدار وسياسة منصتة لنبض الشارع ومتفطنة لتحولات الموجة الديمقراطية في العالم، وتعاط ناضج مع ما كانت تعتمل به الحياة السياسية والاجتماعية في إسبانيا، وسعى لبناء توافق واسع مع مختلف الفرقاء، ورضي -التزاما بعهد قطعه للزعيم المقبور- ببقاء أرياس نابارو رئيسا للحكومة في نسختها الثانية (ديسمبر/كانون الأول 1975)، تضم كافة أركان النظام الفرانكوي، فضلا عن الجيش وأجهزة الأمن التي كانت بيد قادة لهم عقيدة فرانكوية قومية متصلبة.
وبتأثير رجالات الاعتدال والساسة الوطنيين في الملك الشاب آنذاك، وعلى رأسهم أستاذه فرنانديز دي ميراندا الذي ساعده في إعداد وصفة لنظام سياسي مقبول أوروبيا وعالميا، وبسحب الصلاحية التاريخية من الفرانكوية الشائخة، والذي لعب دورا كبيرا في تخفيف حيرة الملك في اختيار الواحد من أصل 3 كانت تقضي قوانين الجنرال فرانسيسكو العمل بها والقسم على تطبيقها، فكان أن تقدم لخلافة الرئيس المنتهية ولايته على رأس البرلمان الإسباني، فعينه الملك رئيسا جديدا للبرلمان، فعمد إلى تقديم 3 أسماء للملك، ضمنهم الأمين العام للحزب الوحيد الذي أومأ دي ميراندا إلى الملك باختياره، رغم كونه أحد رجالات النظام الاستبدادي، ثم كان أن أتيحت له فرصة "تغيير القانون بالقانون" بتعبير المؤرخ محمد العربي المساري، فعدّل مسطرة إعادة تعيين رئيس "الكورتيس"، وكذا طريقة عرض واختيار الأسماء المرشحة لخلافة كارلوس آرياس في رئاسة الحكومة، وغيرها من الإجراءات التي تسلل بها إلى مواقع السلطة التنفيذية عبر بعض رجالات إرادات الإصلاح والتغيير (مانويل فراغا، ولانديلينو لابيا، وفيرناندو أبريل، وغوتيريس ميدايو) الذين وسّع بهم طموحاته في التأسيس لمرحلة جديدة من عمر إسبانيا.
ابتسم الحظ للملك وللشعب -في ظل لحظات حالكة وصعوبات جمة- بأن استثمر في التعديلات القانونية، ليصير له حق تعيين اسم واحد من أصل 3 عرضت عليه لتشكيل حكومة جديدة، فكان أن وقع اختياره على السياسي المخضرم أدلفو سواريث لترؤس حكومة الطور الانتقالي، والشروع في بناء لبنات الانتقال العملي صوب الديمقراطية بمعية بقية عاقلة من العائلة الفرانكوية، وقادة سياسيين شباب مدوا جسور التواصل والتعاون والثقة في شخص الملك، وراهنوا عليه لإخراج إسبانيا من ضيق الاستبداد والتخلف إلى رحابة الديمقراطية والتقدم والتغيير، واللحاق جمعا -ملكا وأحزابا ومجتمعا- بركب أوروبا، وتسنم زعامة العالم الإسباني الناطق بالإسبانية.
في البدء لم تثر اللائحة المقترحة أي حماس شعبي أو تفاعل إعلامي كبير، ولكن بتنصيب الرجل المجهول من طرف الجمهور أدلفو سواريز، فُتح فصل جديد في الحياة السياسية والاجتماعية لإسبانيا، وأشرعت الأبواب على موجة من الحماس والمفاجآت، ومدح وذم للرجل، وانقسام الحال بين إرادة راغبة في الانتقال الديمقراطي وإرادة تجر للوراء، ناكصة إلى عهد الاستبداد.
أدلفو.. الورقة الرابحة وجسر العبور
في قرية هادئة ليس لها نصيب من التاريخ الكبير لإسبانيا، وفي جو خريفي مطير، ولد أدلفو سواريز يوم 25 سبتمبر/أيلول 1932، لأسرة بسيطة، لا وزن سياسيا ولا اجتماعيا لها، فنشأ وترعرع في أحضان أم شديدة التدين وأب مقامر سكير مفلس، لم يكونا يتوقعان أن يخرج من صلبهما رجل ستحالفه فِراسته وحظوظه في إسعاد شعب برمته.
فمن زعيم عصابات الحي في قرية |ثيبريروس" إلى زعيم سياسي وقائد وطني وآخر النبلاء الإسبان، الموشح في أواخر حياته بقلادة "دوق إسبانيا" من قبل الملك. تموّج مساره بين إخفاقات في الجانب الدراسي ونجاحات في الجانب المهني والسياسي والنضالي، فزاول مهنة المحاماة، وتدرج في مراتب المسؤوليات السياسية في طور الحكم الفرانكوي، إذ ترأس باسم الحزب الحاكم (الفلانخي) المجلس الجماعي لمدينة سيغوفيا سنة 1968، وحاز في نفس السنة عضوية البرلمان الإسباني ممثلا عن "الحركة الوطنية" الفرانكوية، ثم مديرا للإعلام والتلفزيون الإسباني، فوزيرا في حكومة آرياس نابارو، كما كان من الساسة القلائل الذين عمّروا في البرلمان من 1977 إلى غاية اعتزاله سنة 1991.
إلا أن أهم حدث في مسيرته السياسية، كان ترؤسه حكومة العهد الديمقراطي، في أعقد مهمة له على الإطلاق، نظرا للرهانات الكبيرة التي عقدت على حكومته، وبالذات على شخصيته التي كانت محط اختلاف واستغراب بادئ الأمر، وتقدير وثقة من لدن الملك وبعض الفرقاء السياسيين والطبقة المتوسطة والكتلة المتفتتة من أنصار النظام السابق في نفس الوقت.
فباعتماد فلسفة القطيعة النسبية وإعمال مبدأ التدرج والعقلانية والواقعية، انطلق سواريز في نحت سياسة العهد الجديد، من يوم تسلم المنصب في 3 يوليو/تموز 1976 وإلى غاية مغادرته له يوم 25 فبراير/شباط 1981. فانتهج خيار "الوسط السياسي"، تفاديا لأي تطرف يجر إلى الوراء، أو تلهف غير ناضج يقفز فوق سننية التاريخ إلى الأمام، وأوجد -عبر إطار حزبي وممارسات حكومية- صيغة الاعتدال ومصالحة الإسبان مع ذاتهم ورغبتهم وتعدديتهم وملكيتهم، خدمة للثقافة الديمقراطية النامية في البلد وقتئذ، وتعزيزا "لنسق سياسي قابل للعيش" بتعبير المؤرخ المغربي العربي المساري.
فقاد السياسي المحنك أول حكومة في العهد الديمقراطي بإسبانيا، رئيسا لحزب "اتحاد الوسط الديمقراطي" الذي فاز بالانتخابات التشريعية، حيث ظفر في أول انتخابات تشريعية بــ166 مقعدا، من أصل 350، وفي الانتخابات الموالية سنة 1979 أحرز الحزب 168 مقعدا، فتعود الناخب الإسباني على جو الانتقال الديمقراطي، واستوعب السياق الدولي والأوروبي، فدفع باتجاه مساعدة سواريز في مهمته التاريخية، تجسير الانتقال من طور إلى آخر.
ولم يخلف الرجل الموعد مع التاريخ والشعب والملك، وعقب تصريح حكومي يوم التنصيب في البرلمان لم يتعد 12 دقيقة، باشر إنجاز مهام الانتقال الديمقراطي بفتح ملفات وحسم أخرى، إذ ما لبث أن شهد الإسبان تنظيم أول انتخابات تشريعية بنظام الاقتراع العام في العهد الجديد، ثم شرعت الحكومة بتنفيذ رزمة من الالتزامات السياسية والاجتماعية، وعينها على العمق الأوروبي ومستقبل العلاقة مع المحيط الأطلسي والدولي، على رأسها: إعلان العفو العام وعودة المنفيين، الاعتراف بكل الأحزاب، فتح أول مكتب دبلوماسي للسلطة الفلسطينية في مدريد، إلغاء الرقابة على الصحافة والإعلام الرسمي والخصوصي، استحداث وزارة الثقافة، تعيين لجنة إعداد الدستور الجديد (وهو السابع في قائمة الدساتير التي عرفتها مملكة الكاثوليك منذ 1812، وهو الأطول عمرا من بينها، والمعمول به إلى اليوم)، بعث ممثلين عن الملك ورئيس الحكومة إلى زعيم الشيوعيين وإخباره بأنه قد أزف موعد الاعتراف بحزبه ولإقناعه بضرورة تفهم لحظات الانتقال ودعمها، توقيع اتفاق "مونكلوا" عنوان الوفاق الوطني التاريخي من أجل الديمقراطية، الشروع في تنزيل الجهوية الموسعة أو نظام الحكم الذاتي. كما ركزت السياسة الخارجية لحكومتي حزب اتحاد الوسط الديمقراطي (1975-1982) على إعطاء الأولوية لــ: الواجهة الأوروبية، العالم الإسباني، المحيط العربي والمتوسطي.
ونظرا لتتالي بعض الأزمات، واختلاف قادة الحزب حول التقديرات والاختيارات، وانسحاب البعض منهم عن الإطار التنظيمي، خلفه على رأس الحكومة الثانية السياسي ليوبولدو كاريلو، الذي تزامن يوم تنصيبه لحكومته في البرلمان مع اقتحام المؤسسة التشريعية وإعلان أول انقلاب عسكري في العهد الجديد، وكان ذلك أول انقلاب ينقل على شاشة التلفزيون الإسباني، وقد واجهه أدلفو وليوبولدو بصدور عارية وإرادة حازمة، وصرخا في وجه الجنرال الانقلابي طوخيرو بإلقاء السلاح من يده والنزول من منصة البرلمان والخضوع لمنطق التاريخ العنيد، منطق التغيير ونهاية عصر العسكر، فأفشل الانقلاب في إبانه، وصنع الإسبان -بتلاق موضوعي لإرادات البناء وإلى جانب الملك والأحزاب- أهم ثورة بيضاء، وانتقالا ديمقراطيا ناجحا في العالم بلا دماء.
وترجّل الفارس.. رحيل بلا ذاكرة
حق للإسبانيين أن يفخروا بأعظم ثورة سلمية أنجزوها في القرن العشرين، متوافقين، متكاتفين، أعينهم على المستقبل، وعملتهم العقلانية السياسية وأخلاق المسؤولية.
وحق للقوى السياسية ولقادة أحزاب مرحلة الانتقال الديمقراطي (أدلفو سواريز، مانويل براغا، أنطونيو كاستيلو، سانتياغو كاريلو، أرثيلا، ليوبولدو سوتيلو، أندريس ريغيرا، مارسيلينو أوريخا، مارتين بييا، فرناندو موران، فليبي غونزاليث..) الاعتزاز بأنفسهم ورشدهم وتنظيماتهم وإسهاماتهم النوعية في تثبيت بنيات الاستقرار السياسي والتغيير الديمقراطي من موقع المعارضة والحكومة سواء.
وحق لخوان كارلوس أن يجنح إلى الراحة بانتشاء واعتزاز وحصيلة إنجازات فوق العادة، بعدما أنجز جل نقاط جدول أعمال الشعب الإسباني، وأرسى بإرادة حرة وتعاون جاد مع الأحزاب السياسية ديمقراطية حقيقية وملكية دستورية تسود ولا تحكم، وكان -إلى جانب أدلفو وآخرين- فارس الانتقال الديمقراطي وقائد الازدهار التنموي والرائد الذي لا يكذب أهله.
وحق للعائلة الصغيرة والكبيرة لأدلفو أن تفخر بمنجز الرجل، فقد كان سواريز بحق، نبتة من مزرعة فرانكو، أثمرت شجرة الديمقراطية في أعرق بلدان المتوسط، وفي أدق لحظات البلاد وأعقدها، حيث لا ينجح إلا الوطنيون الكبار في اجتيازها.
وبعد مسيرة حافلة، وانسحاب هادئ من الحياة السياسية، وانعزال اضطراري عن الحياة العامة، طوى الموت رجلا لم يتذكر طوال السنوات العشر الأخيرة من عمره أي شيء عن ذاته ووطنه وإسهاماته وحكومته، ولم يستشعر الإسبان قيمة الرجل ورزء الرحيل إلا وهم يسلمون جثة كبيرهم الذي علمهم أن كل صعب على الشعوب يهون إذا ما توفرت الإرادات والعزمات، وصح السير في درب التغيير، وآمن الساسة والجمهور بأن تكاليف الديمقراطية وكلفتها أعظم وأهم وأثمر للأوطان والعمران والإنسان من تكاليف الاستبداد والتخلف والغش السياسي، واستيقن الشعب يوم 23 مارس/آذار 2014 أن بعض الأمم تخدمها فراسة قادتها وعظمائها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.