شعار قسم مدونات

رحيل آخر الأربعة الكبار في الشعر الفلسطيني الحديث!

الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة (الجزيرة)

 

قبل أقل من أسبوع على إتمامه الـ75 من عمره في 5 أبريل/نيسان الجاري من هذا العام إثر إصابته بوباء كورونا رحل في العاصمة الأردنية عمّان الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة المعتبر أحد "الأربعة الكبار" في الشعر الفلسطيني الحديث، وهم إضافة إلى المناصرة الراحلون محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم.

لقد طبع هذا الجيل من شعراء المقاومة الفلسطينية الشعر والأدب العربي الحديث، وتخطت حدود تأثيره نطاق فلسطين والوطن العربي لتشمل العالم الأرحب.

وبمقدار ما تعتبر تسمية "الأربعة الكبار" تكريما لهؤلاء الشعراء فإن فلسطين قد أنجبت غيرهم من الشعراء الكبار الذين لا مجال لتجاهل تأثيرهم وبصمتهم، كالشاعرين معين بسيسو ومريد البرغوثي.

وكما تجلت "النكبة" و"التغريبة الفلسطينية" في حياة هؤلاء الشعراء فإن موتهم كان كاشفا أيضا عن مأساة الشعب الفلسطيني.

رحل عز الدين المناصرة في عمّان بعيدا عن مسقط رأسه، ورحل محمود درويش في العام 2008 في مدينة هيوستن بولاية تكساس في الولايات المتحدة الأميركية بعيدا عن أرض فلسطين، حيث دفن وأقيم له ضريح.

ومعين بسيسو رحل وحيدا في غرفة بفندق في العاصمة البريطانية لندن في العام 1984، لم يسمح الكيان الصهيوني بدفنه في مسقط رأسه في غزة فدفن في القاهرة.

أما الشاعر توفيق زياد فرحل بطريقة مأساوية في حادث سير في طريقه لاستقبال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات العائد إلى الأراضي الفلسطينية في العام 1994 عقب اتفاقيات أوسلو.

ورحل الشاعر مريد البرغوثي في 14 فبراير/شباط 2021 في العاصمة الأردنية عمّان أيضا، أما الشاعر سميح القاسم فهو الوحيد الذي رحل في مدينة تقع تحت السيطرة المباشرة للكيان الصهيوني، وهي مدينة صفد على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك في العام 2014 جراء إصابته بمرض السرطان.

 

وقد أبدع المخرج السينمائي والكاتب الفلسطيني نصري حجاج المولود في مخيم عين الحلوة بالقرب من صيدا بلبنان -والذي يقيم حاليا في فيينا عاصمة النمسا- في تصوير شتات الفلسطينيين ونكبتهم في فيلمه البديع والمؤثر "في ظل الغياب".

في هذا الفيلم يبدأ حجاج رحلته من أرض قرية الناعمة مسقط رأس والده وأجداده في الجليل نحو المدافن التي ضمت أجساد فلسطينيين، خاصة في دول اللجوء.

وقد ذهب نصري حجاج إلى فيتنام، حيث يرقد أحد المناضلين الفلسطينيين الذي تزوج فيتنامية وأنجب منها، وأخيرا ضم جسده أحد مدافن الوطن الذي قهر أمريكا.

يزور حجاج قبور الشهداء الفلسطينيين وقبور الفلسطينيين الذين ماتوا بأسباب طبيعية، وكان من ضمن القبور التي أضاء عليها الفيلم قبر الشاعر معين بسيسو في القاهرة.

هذا، وقد ربطت نصري حجاج بالراحل الكبير عز الدين المناصرة علاقة صداقة يظهر أثرها على الصفحة الشخصية للمخرج السينمائي الفلسطيني في منتدى فيسبوك للتواصل الاجتماعي.

وفي زيارة له للعاصمة الأردنية عمّان منذ زهاء عامين يظهر نصري حجاج في صورة متوسطا صديقيه الراحلين عز الدين المناصرة ورسمي أبو علي في منزل الأخير.

ولدى رحيل صديقه المناصرة في 5 أبريل 2021 أعاد حجاج نشر الصورة، ونشر بعد ذلك صورة جمعته بالراحل المناصرة في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي على ضفاف بحيرة بالقرب من العاصمة البلغارية صوفيا، حيث كان الشاعر الفلسطيني يتابع دراساته العليا في الأدب المقارن.

وللدلالة على شيء من شخصية الراحل الكبير عز الدين المناصرة نقتطف من صفحة المثقف نصري حجاج هذا المقطع من تعليقه على الصورة التي جمعته بالمناصرة في بلغاريا "عز الدين كان له أحباب كثيرون يحبونه ويفهمونه غير الزيتون، وأنا منهم، كان عز الدين يملك قلبا مثل اللبن الأبيض الطازج دائما".

الشاعر المقاتل

من بين رفاقه "الأربعة الكبار" تميز عز الدين المناصرة، ومن بين الأمور التي تميز بها بكونه الوحيد بينهم الذي حمل السلاح مقاتلا في صفوف الثورة الفلسطينية، خائضا معارك عسكرية حقيقية ضد ما كان تعرف بقوى "الانعزال" اللبنانية وضد حليفها الكيان الصهيوني الذي اجتاح لبنان في العام 1982.

في ذلك العام كان الشاعر المناصرة قائدا عسكريا ميدانيا في جنوب العاصمة بيروت بأمر من القائد الفلسطيني ياسر عرفات.

جنبا إلى جنب مع نضاله العسكري الميداني لم يترك الشاعر عز الدين المناصرة نشاطه الثقافي كشاعر ومثقف وكاتب ينشر دواوينه وكتبه ومقالاته في الإصدارات الدورية الفلسطينية واللبنانية المهتمة بالثورة اللبنانية.

لقد وفِّق عز الدين المناصرة إلى النضال بالسلاح كما بالقلم والكلمة، وهذا الأمر يحسب له في سيرته، فهو لم تبعده حياة المكاتب والمكتبات عن الجهاد الميداني والنزول إلى أرض المعركة، متجشما الصعاب ومقتحما المخاطر.

حياة الشاعر

ولد عز الدين المناصرة في قرية بني نعيم التابعة لمدينة الخليل الواقعة في الضفة الغربية في 5 أبريل/نيسان 1946، اسمه عند الولادة كان "محمد"، ولكن لقب "عز الدين" غلب عليه في بدايات شبابه.

لقد كان جد الشاعر يحمل اسم "عز الدين"، وقد كان شاعرا شعبيا ووجيها من وجهاء منطقة الخليل، وقد كان لولادته وطفولته ومراهقته في هذه المنطقة الريفية من فلسطين بالغ الأثر على أعماله الشعرية التي مثلت بامتياز الشعر الرعوي الفلسطيني، وجاءت حافلة بالتراث الكنعاني ونحت منحى الشعر الملحمي.

في العام 1964 انتقل الشاعر إلى مصر لمتابعة تحصيله الدراسي الجامعي في جامعة القاهرة، حيث نال شهادة إجازة في الأدب العربي والعلوم الإسلامية في العام 1968 الذي كان نفس العام الذي نال فيه الشاعر جائزة الجامعات المصرية للشعر.

في القاهرة نسج عز الدين المناصرة علاقات مع أهل الثقافة والأدب، لعل أبرزهم الأديب الكبير نجيب محفوظ.

وفي القاهرة أيضا انتمى ونشط في التنظيمات الطلابية الفلسطينية، وفي مصر أيضا بدأ أول تدريباته العسكرية تحت إشراف جيش التحرير الفلسطيني، وذلك بعد الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة أو ما تعرف بـ"نكسة 1967″، وقد تنبأ المناصرة -بحدسه الشعري العالي- بحدوث النكسة قبل وقوعها، وذلك في قصيدته "زرقاء اليمامة".

الحقبة الممتدة ما بين عامي 1970 و1973 قضاها الشاعر المناصرة في الأردن، حيث عمل مديرا للبرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية، وارتبط بعلاقات صداقة ومودة مع المثقفين الأردنيين.

وفي الأردن أيضا شهد شاعرنا أحداث "أيلول الأسود" التي بطش فيها الملك الأردني حسين بالفصائل الفلسطينية الموجودة على أراضيه، ورغم عدم انخراط المناصرة بشكل مباشر في هذه الأحداث فإن انحيازه الصامت لمنظمة التحرير الفلسطينية شكل عامل ضغط عليه دفعه إلى الانتقال في العام 1974 إلى بيروت التي أصبحت مركز فصائل منظمة التحرير، كنتيجة مصيرية من نتائج أيلول الأسود الدامي.

في لبنان، عاش عز الدين المناصرة من العام 1974 إلى العام 1982، وكانت هذه المرحلة من أثرى المراحل في حياة الشاعر، كما كانت من أهم مراحل الثورة الفلسطينية إن لم تكن أهمها في تاريخها منذ النكبة وحتى اليوم.

وفي لبنان أيضا تزاوج الشاعر والمثقف والناقد والمفكر المناصرة مع المقاتل على الجبهات الأمامية والمناضل والناشط.

كان عز الدين المناصرة يكتب الشعر والمقالات والكتب من جهة، ومن جهة أخرى يخوض المعارك الميدانية حاملا السلاح ضد العدو الصهيوني وضد ما سميت القوى الانعزالية اللبنانية المتحالفة معه.

تعود للحقبة اللبنانية الصداقة الوثيقة التي ربطته بالشاعر محمود درويش، وهي الصداقة التي يبدو أنها اعتراها شيء من التعكير في ما بعد، ففي مقابلات منشورة في أكثر من موقع عربي بعد وفاة درويش ينحي المناصرة باللائمة على ابن البروة الأشهر بسبب مواقفه السياسية الأخيرة، ويغمز أن درويش تصدر المشهد الشعري والثقافي الفلسطيني بسبب قربه من السلطة الفلسطينية، وليس هذا فحسب، بل يتهم المناصرة زميله وصديقه الحميم السابق درويش بانتحال بيته الشعري الشهير جدا "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" من الفيلسوف والكاتب الألماني فريدريتش نيتشه، ويقول الشاعر المقاتل إن الشعر الفلسطيني كان في غنى عن هذه السرقة.

وإثر اتفاقية فك الحصار التي أنهت الحصار الصهيوني لبيروت -والتي نصت على رحيل قيادات ومقاتلي وكوادر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عبر البحر إلى مناف أخرى- غادر عز الدين المناصرة مع المغادرين إلى أن استقر به المقام في الجزائر في العام 1983، وهناك عمل أستاذا جامعيا، وبقي حتى العام 1991، في هذا العام انتقل إلى عمّان عاصمة الأردن، حيث أقام حتى وفاته بوباء كورونا منذ أيام.

أعمال الشاعر

تميز عز الدين المناصرة في المشهد الثقافي الفلسطيني بكونه الشاعر الرعوي والملحمي بامتياز.

من بداياته مع ديوان "يا عنب الخليل" إلى "جفرا" ومرورا بـ"كنعانيذا" يظهر النَّفَس الملحمي الفلسطيني باستحضار التراث الكنعاني الثري لهذه البلاد وبالأبحاث في موروثها الأدبي والشعبي والأسطوري.

يقال عن عز الدين المناصرة إنه شاعر بنفس قدر محمود درويش ومثقف بنفس قدر إدوارد سعيد، أي أنه جمع موهبته الشعرية العالية إلى جانب ثقافته ونقده الأدبي الرفيع، مع أنه لم ينل ما ناله زميلاه من الشهرة والذيوع والاعتراف.

أصدر المناصرة 12 ديوانا بالإضافة إلى كتبه النقدية والأدبية التي تناولت مواضيع الأدب والفن وحتى السينما، وغنى الفنان اللبناني مارسيل خليفة قصيدتي المناصرة "بالأخضر كفناه"، و"جفرا" ولحنهما كما غنى ولحن لشعراء فلسطينيين آخرين كمحمود درويش وسميح القاسم، إلا أن المناصرة أعرب في بعض مقابلاته عن الإجحاف الذي طاله في هذا الخصوص، فكثير من الناس يظن مثلا أن "بالأخضر كفناه" و"جفرا" هما من تأليف زميله محمود درويش.

شاعر مظلوم

لقد ذكر عز الدين المناصرة في بعض مقابلاته أنه عانى وعائلته من ضائقة مادية لم يذكر مدة دوامها، في حين أن محمود درويش قد مات مليونيرا، وفي كلام المناصرة هذا شيء من العتب المحق والوجيه، فكيف نال زميله درويش كل النجاح، مالا وشهرة، في حين أنه تم تجاهله، مع أنه لا يقل إبداعا عن درويش شعرا، ولكنه يتجاوزه في مجال النقد الأدبي والفني والأبحاث التراثية، ورغم هذا يعترف المناصرة بأن صديقه القديم درويش كان شاعرا كبيرا حقا.

 

بوفاة عز الدين المناصرة ومن قبله بأقل من شهرين مريد البرغوثي تطوى حقبة ثرية جدا من الشعر الفلسطيني والعربي خدمت القضية الفلسطينية خدمات جلّى، وأوصلت الصوت الفلسطيني إلى المحافل والمنتديات العربية والعالمية.

ما الذي ينتظر الشعر والأدب والثقافة في فلسطين والوطن العربي بعد رحيل جيل كبار الحداثة من نزار قباني إلى محمود درويش إلى نجيب محفوظ؟ الأيام كفيلة بالإجابة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.