شعار قسم مدونات

شبكة الجزيرة.. رحلة التقصي عن الصورة الكاملة

مبنى قناة الجزيرة

 

حينما أعلنت قناة الجزيرة تبنيها "الرأي.. والرأي الآخر" كان لزاما عليها أن تدرك المسؤولية الأخلاقية المحفوفة بالمخاطر في نقد وتتبع سياسات الأنظمة الحاكمة، وأن تقف على مسافة واحدة من الخصوم السياسيين كي يتسنى للمتلقي العربي إدراك

صوت من لا صوت له،

ولعل شعار الجزيرة الموسوم بـ"مع الإنسان" والمكنون بمعان راقية من المهنية والدفاع عن حق الشعوب في العدالة والحرية لم يرق للعديد ممن ألفوا الهوان والخضوع للاستبداد والظلم والصوت الواحد.

كانت البداية يومها كقطرة حملت الكثير من الآمال والرهانات لواقع عظمت محنه، وسط بيئة عربية مثخنة بالصراعات السياسية والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، وتكتم معلوماتي وإخباري لآلة الإعلام الرسمية كان على الجزيرة أن تخوض غمار التقصي والبحث للوصول إلى "الصورة الكاملة" وعرضها لجمهور عربي مثقل بسياسات المشاريع الكبرى والتدشينات الوهمية والشعارات الزائفة، ومع الحقائق المتأرجحة بين الهيمنة الغربية وعالم متأجج بالكاد ينجو من سطوته حلم حرية مجتمعاتنا العربية غدت "الكلمة الحرة" سلاحا فعالا ومهنيا لدحض الزعامات المتألهة والأفكار السائدة والرأي الواحد المتسلط.

"مع الإنسان".. محطات للبحث عن الصورة الكاملة

واكبت قناة الجزيرة منذ نشأتها أهم الأحداث العالمية والعربية، وقدمت الكثير من صحفييها في الصفوف الأولى لجبهات النزاع والكوارث الطبيعية، وقد كانت قضية حصار العراق من طرف الولايات المتحدة الأميركية وشركائها الدوليين إحدى المحطات التي اعتنت بها شبكة الجزيرة كالتزام إنساني وأخلاقي لا مناص منه، لتوثق عدستها المآسي والانتهاكات التي أنهكت الشعب العراقي وأذاقته الويلات نتيجة سياسات المجتمع الدولي المتمثلة في "النفط مقابل الغذاء"، إلى جانب نقلها وقائع وأحداث انطلاق الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 بكل مهنية واحترافية وبسالة، والتي واجهتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بالعنف والقتل، لتنقل شاشة الجزيرة للعالم حقيقة الإرهاب الإسرائيلي الممنهج ضد الفلسطينيين، متعقبة محاولات الاحتلال تصفية قادة المقاومة.

وحينما تراءى للعالم سقوط برجي التجارة العالمية بالولايات المتحدة الأميركية في 11سبتمبر/أيلول 2001، وإعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن الحرب على الإرهاب انطلاقا من محطته الأولى أفغانستان اتخذت شبكة الجزيرة موقعا من الحملة الشرسة التي قادها العالم الغربي ضد العالم الإسلامي، فانبرت دون غيرها لرفع الادعاءات الأميركية والتلفيقات الغربية، لتصبح مصدرا للخبر والمعلومة للعالم أجمع.

كانت عملية مكافحة الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأميركية مكلفة للطواقم الصحفية العاملة بمناطق النزاع، ففي أفغانستان لم تتوان قوات التحالف الدولي المحتل عن قصف مكتب الجزيرة في كابل، وبعد احتلال أميركا للعراق عام 2003 هاجمت قواتها مكتب القناة ببغداد وقتلت على إثرها المراسل طارق أيوب، لتستمر عملية التخويف وإسكات الصوت الفاضح للصورة التي امتهنها الاحتلال الغربي وأشياعه، فاعتقل من المراسلين العشرات، منهم من سجنوا في غوانتانامو ليذوقوا ويلات التعذيب، ومنهم من مدد لهم الحجز المؤقت في سجون عربية إذلالا وكسرا ومساومة للكلمة والحقيقة.

وعندما ضربت ريح الربيع عرش الاستبداد بمنطقتنا العربية كان منبر الجزيرة قد غطى أحداثا مشابهة كانتفاضة الحركة الخضراء عام 2009 في إيران، وواجه الكثير من التحديات المهنية كإغلاق مكاتبها في كل من المغرب والجزائر وتونس، وذلك لما سببه "صوت الحقيقة" من إزعاج لتلك النظم الهشة والمتردية، والتي أثبتت الجزيرة في العديد من محطاتها المهنية وبرامجها الإخبارية والوثائقية ضعف الجبهة المناوئة لها وافتقادها لمشروع إعلامي وطني حقيقي، فالنبش في القضايا العادلة وتحريك الملفات المسكوت عنها وكشف الحقائق من دون إبداء حكم مسبق كان أمرا مرفوضا في بيئة عربية انشغلت مؤسساتها الإعلامية في تحسين الصورة البشعة لواقع مزر ومتعفن يسبح بحمد الطغم الحاكمة، ولعل برنامجا لا يرسم حدودا لحقيقة مطلقة عبر توجيه الأسئلة الحرجة للعديد من الساسة وصناع القرار لم يتخلف عن سيرورة التاريخ كي يمنح لمن أراد أن يروي لعالمنا العربي شهادته على العصر، كما أن البحث والتقصي لم يتوقف عند برنامج "سري للغاية"، بل امتد لأكثر من ذلك إلى تحقيقات الجزيرة التي تغوص في عمق الأرشيف الثقافي، والتاريخي، والاجتماعي، والسياسي، من ذلك فتحها ملف اغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وطرحها الأسئلة الحرجة لكشف حقيقة من له المصلحة في التخلص منه، مجددة وقوفها مع الحقوق التاريخية للفلسطينيين بتعزيز حضورها الميداني عبر رصدها تحركات الاحتلال وحروبه ضد الشعب الفلسطيني، ودعمها أساطيل الحرية الرافضة لحصار غزة.

رسمت الجزيرة ملامح مرحلة جديدة للشخصيات التاريخية العربية الإسلامية بالغوص في الأرشيف التاريخي لأمتنا وسبر أوراق مللها وطوائفها والتمعن في مختلف الإثنيات والثقافات، مانحة عالمنا العربي الإسلامي صورة مغايرة ولوحة مشرقة مزاحمة للحكايات المنتجة من المركزية الغربية، وعبر تدشينها مركز الجزيرة للدراسات عام 2006 وفتحها قناة الجزيرة الوثائقية سنة 2007 انبرت الشبكة كواحدة من أهم المؤسسات الإعلامية في استقطاب المفكرين والمثقفين، وإمبراطورية إعلامية عنوانها التميز والابتكار، ولولا أن كلمتها آلمت الكثير من صناع القرار لما اتخذت ضدها إجراءات تعسفية وقمعية للحيلولة دون تحقيق تغطيتها الإعلامية للأحداث، بل سعى البعض لاختراق حسابات صحفييها لتشويه رسالتها.

تجاوزت الجزيرة نموذج مؤسسات الإعلام العمومي عبر خطابها المتأصل والمستحدث، فراحت تراسل العالم بلغات مختلفة وصفحات تواصلية مباشرة، ملغية الحدود السياسة والأمنية التي اعتمدتها نظم الوكالة وأعداء الديمقراطية، لتفتح نافذة نحو الغرب لتكريس حق شعوبنا العربية في الحرية.

 

ربيع الجزيرة.. ثقة تتجدد

مع توسع الاحتجاجات العربية في عواصم عدة من بلدان المشرق والمغرب العربي مطلع عام 2011 كان على قناة الجزيرة أن تبصر بعدستها وتنقل الأحداث من لحظتها وهي ترصد ماهية الاحتجاجات تلك، وفي اللحظة التي أخذ فيها الإعلام الرسمي يرمي الشباب الثائرين يومها بالتخوين والتسفيه أعلنت شبكة الجزيرة تغطيتها المباشرة لمطالب الناس المنتفضة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، حينها أثبتت القناة بكل جدارة جاهزية ترسانتها الإعلامية للذهاب إلى أصعب المناطق وأشدها احتقانا، لا لنقل مواضع إطلاق الرصاص، بل إلى ساحات التحرير وميادين الانتفاضة حيث يسقط الناس قتلى بسبب القنص والاعتقال والتعذيب.

لم تسلم شبكة الجزيرة هي الأخرى من موجة الربيع العربي التي حركت أقاليم الرفض، ولم تكن بمنأى عن التغييرات التي استجدتها المرحلة المفصلية من تاريخ أمتنا وشعوبها التواقة للحرية، فبعد العدوى الثورية التي اجتاحت كل العواصم العربية من محيطها إلى خليجها لاحت بوادر انشقاق لبعض رموز الجزيرة وصحفييها، وشاعت أخبار عن استقالة الصحفيين أحمد منصور وفيصل القاسم بعدما توقف بث برنامجيهما لأسابيع، وبدا المشهد مرتبكا وضبابيا حينها للجمهور العربي حاله حال الوضع المتأزم منذ بداية عام 2011، إلا أن استقالة عدد من الصحفيين -على رأسهم غسان بن جدو- كانت لا تعبر عن رفض لتوجهات القناة ومبادئها التي تأسست عليها، ولا الفكرة القائمة على تعزيز الحريات والقيم الإنسانية ونصرة الشعوب المقهورة، لتأتي بعدها استقالة الصحفي علي الظفيري عقب فرض السعودية وحلفائها حصارا على قطر، ليتوقف برنامجه المتميز "في العمق" الذي اعتبره كثيرون امتدادا لما كان يقدمه سامي حداد عبر برنامجه "أكثر من رأي"، وسط أنباء عن اختفائه ومحاكمته سرا بتهمة التخابر مع قطر.

فوبيا الجزيرة.. كيف أرست الجزيرة قواعد المهنية؟

عبر مسيرتها الريادية في توثيق اللحظات المفصلية من تاريخ أمتنا العربية الإسلامية واجهت شبكة الجزيرة اتهامات كثيرة وتعرضت للحجب مرات عدة، وكانت الدعوة لمقاطعتها وتعقب صحفييها ومدونيها تغزو القنوات المنضوية تحت لواء الثورات المضادة، حيث بات من السهل تقديم لوائح اتهامات جاهزة لها بالأخونة ومساندة الإرهاب والتخابر مع جهات أجنبية، وبدل أن تنخرط المنظومة الإعلامية العربية في المشروع الحداثي الذي توجته الجزيرة بمسيرة تجاوزت العقدين من التميز، واستغلال الفضاء الإعلامي والدولي لإسماع صوت العربي كان على الجزيرة أن تقف في نهاية الطريق ترقب بكل تحيز تطلعات شعوبنا العربية الإسلامية نحو العدالة والعيش الكريم تنظر إلى الخوف الذي يجتاح قلوب من اختاروا أن يضحّوا بالملايين من البشر وهم يجثون على رقاب الناس في سبيل ملك يبلى.

ما يعاب على شبكة الجزيرة -كونها القناة التي تفردت إلى يومنا هذا بالتميز الإعلامي- هو أنها انحازت إلى الرأي الذي يخدش كرامة المستبد، فلا يتركه في حل من النقد والاتهام والمحاسبة، وانتصرت إلى صوت المغيبين والمهمشين والجوعى والمحرومين من الحياة، إلى رأي المقموعين والمسجونين طوال سنوات من التيه والخذلان العربي، وبينما تهاوت عواصم عربية في غيابات الصراعات السياسة والحروب الداخلية بقيت الجزيرة تحمل على عاتقها حلم التغيير الذي لم يكتمل بعد، لمستقبل أفضل يكافح للخروج من عنق الاستبداد، ولعل استمرار قناة الجزيرة في رسالتها مرهون بمدى تمسكها بالمبادئ والسياسات التي من أجلها أثبتت حضورها العالمي، في وقت تتهافت الأنظمة العربية إلى تمرير صفقات التطبيع وإسكات الأصوات المناهضة له.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.