ترتبط الأمومة بالمشاعر العاطفية للمرأة، وتتغذى هذه المشاعر على حب وعطف الأم، وعلامة ذلك ما تكرسه من حياتها لتعتني بأطفالها، وتمضي وقتها لتغرس فيهم الصفات الحميدة؛ ليشب هذا الطفل، ويشق طريقه في الحياة تواقا إلى المعرفة واستكشاف العالم المحيط. لذا فالأم في فترة الحمل وما بعدها تحتاج إلى الدعم النفسي والمعنوي لمواصلة تلك التجربة، التي تنعكس بكافة مراحلها على حالتها النفسية والمعنوية. بأناملها المتمرسة وحبر الذاكرة الأسود روت إليف شافاق سيرتها الذاتية، وأسهبت في سرد تفاصيل حياتها، وذلك بعد مرورها بتجربة اكتئاب ما بعد الولادة.
"حليب أسود" رواية تقارن بين ما تعرضت له الكاتبة من تنكر لأفكارها وطبيعة مسؤولياتها وواجباتها كأم وكاتبة، من خلال إلقاء الضوء على الجوانب العاطفية في حياة المرأة.
العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام تناقلتها الأفواه ومن جرة قلم كتبت إليف لتخاطبنا بوساوسها، وتقول هل تستطيع المرأة التوفيق بين الأمومة والكتابة؟ وهل بمقدورها أن تجمع بينهما؟.
تتضمن بداية المذكرات جملة مفادها "شاطفة الأواني المحظوظة"، تحتوي هذه الجملة على قناعات شخصية وأبعاد اجتماعية مختلفة، لعل أبرزها زواج الكاتبة والتأكيد على دورها كامرأة عصرية تميل بقلمها إلى العنوان الرئيس للنص، وتترجم أفعالها بالتباهي بإنجازاتها ككاتبة قادرة على اختزال دور المرأة التقليدي، وجعل الحظ مرادفا لها، وربط حياة الأنثى بين خيارين أحدهما العادات والتقاليد، فالأسرة تعطيها دورا أساسيا كي تعتني ببيتها، وتحافظ على مؤسسة الزواج التي دخلتها، إما جبرا أو تسليما؛ لتقنع بدورها كشاطفة أوانٍ محظوظة، قُدر لها أن تكون الأم التي تهدهد أطفالها، وتشمر عن ساعديها كي تثبت جدارتها وحسن الاختيار لهذا الدور، أو تدعمها كي تصبح امرأة متفردة توجه قراراتها بنفسها، وتتبنى أفكارا إصلاحية تؤمن أن لها دورا إنتاجيا وقياديا، يجب أن تشقه بنفسها أو تصبح المرأة القوية، التي تنهال عليها اللكمات، ومع ذلك تبقى صامدة ضد التيار قبل أن يجرفها أو يكبتها ويخمد طاقاتها وإبداعاتها.
حليب أسود ليست مجرد رحلة في تجربة اكتئاب ما بعد الولادة؛ إنما خلفية لصورة باهتة تتأثر بأدوار متصلة بعضها ببعض كحلقة من الحلقات المتناغمة، ما إن تفرغ من واحدة حتى تصطدم بالأخرى كالبيئة المحيطة وقوانين المجتمع بما يشمله من عادات وتقاليد، ونظرة دينية ذكورية تقصي جزءا من النص، وتبقي على جزئه الآخر. سيناريو الرواية لا يختلف عن سيناريو الحياة الواقعية بما فيه من رتابة وإقصاء لدور الآخر وإمعانا في التفرد، إنما تفرض على كاتبة الرواية الالتزام بمعايير وحدود لا تجعلها هدفا للشك أو الترصد أو اتهامها بميول شاذة كتناول المواضيع الجنسية والأدوار المتبادلة بين الجنسين، وهي من المعيقات التي تناولتها الكاتبة جزءا من حياة نظيراتها من النساء، وهذا الأمر يختلف باختلاف الثقافة والمجتمع الذي يتبنى وجهات نظر متباينة.
تطرقت إليف إلى ذكر تجارب وقصص النساء الشرقيات والغربيات، اللواتي طرحن في رواياتهن وكتبهن سؤالا يتعلق بمصير حياتهن ككاتبات، جوهره هل نحن كنساء قادرات على التوفيق بين حياتنا الإنجابية وحياتنا ككاتبات؟ سؤال طاف جميع بلدان الشرق والغرب تناولته أصناف النساء، ولكل واحدة تجربتها الفريدة. هي تجارب مريرة خضنها بنفس طويل، حيث تعرضن للضغط النفسي والإنهاك الجسدي إرضاء لذواتهن، وتغلبا على أفكارهن كنسويات، وتكرار نغمة المجتمع الضيقة لدورها كأنثى. هناك من تغلبت على مخاوفها، واستطاعت أن توفق بين خياراتها، أما الصنف الآخر فأصبح ضحية لقراراته وارتبط مصيره بسلسلة من التجارب التي تركت ألما في معراج ذاكرتي. تجارب لنساء حدا بهن القدر إلى مجاراة المجتمع وتغيير ألقابهن؛ لتضع نفسها في قائمة الكتاب الذكور، ومنها تجربة تغيير الكاتبات لأسمائهن واستبداله بلقب ذكوري قناعا يحميها ويخفي هويتها خوفا من المجتمع وقراراته المجحفة بحقهن. أما الكاتبة فقصتها مع اسمها كانت نتيجة غياب الأب في مراحل صباها الأولى، فلا نستغرب من توقيعها رواياتها باسم والدتها ليصبح إليف شافاق.
فتيات الأصابع كن الوجه الآخر لاكتئاب ما بعد الولادة صاحبن الكاتبة في تجربتها، حيث تسلسلت في ذكر دور كل واحدة منها. أدوار صححت مسار الأمومة، وجعلت من تصورات الكاتبة النسوية تصطف إلى جانب غريزة الأمومة، طبق هذا التغيير بعد ما أظهرته بحق بنات جنسها في مقال مانفيستو "الفتاة العزباء" الذي تضمن أفكارا متشددة عن الزواج والإنجاب وحياة المرأة الكاتبة، ومع مرور الوقت ووقوعها في الحب اضطرت الكاتبة إلى مراجعة أفكارها والتسليم بقبولها الزواج لاحقا والإنجاب. فتيات الأصابع شكلن جزءا من ذواتها المتشظية، وجمعن 6 نساء في امرأة واحدة امرأة كاتبة غمست حبرها بأطياف الحكايا والنوادر، وامرأة درويشة متصوفة وشغوفة بفلسفة الرومي، لتكتمل وتصبح المرأة التي قامت بدورها كأم وكاتبة متمنية أن تكون المرأة القوية التي تجمع بين أدوارها المتعددة.
إن الشعور بالحاجة إلى التفاني في الجمع بين الكتابة والأمومة لا يُبنى من خلال قرارات عشوائية، أو شواهد تقودنا إلى الشعور بالنقص، أو من خلال التعرف على قصة امرأة أخذت نصيبها من التجربة مع عدم نفي الفائدة منها، محاولات لتجاوز مرحلة من مراحل الأمومة، وما يصاحبها من تحديات، وإنما الإحاطة بالتجربة من جميع جوانبها هو ما يؤهل المرأة إلى قبول أو رفض الاستعانة بما تجود عليها الحياة به من مودة وحب وقرارات تشعرها بالرضا بدون التأثر بتجارب قد لا تناسب العصر الذي تعيشه، فهي بذلك تفرض على نفسها التمركز حول هدف واحد يضيع عليها الفرص الأخرى.
ما أرادت الكاتبة إيصاله لا يصدر عن امرأة غرقت بين الكتب لتعرف ماهية الأمومة؛ بل إن التجربة هي من صنعت منها امرأة تجمع بينهما. فهي الكاتبة والأم التي راجعت أفكارها بعد أن تنكرت لها، ووصفت غريزة الأمومة بأرق الأوصاف لتجعل منها هدايا ثمينة تعيد تشكيل طينة القلب وتجعل المرأة متناغمة مع إيقاع الكون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.