جاءت الدعوة إلى الوحدة العربية والانفصال عن حكم الباب العالي في بداية القرن الـ20، ردة فعل ضد ممارسات حركة الطورانية في الدولة العثمانية. وكان طموح العرب في تأسيس كيان مستقل بطابع خاص، له شرعيته في ظرف تاريخي حاسم، وضع العرب أمام تحديين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر؛ من جهة تزايد الأطماع الغربية في السيطرة على الوطن العربي، ومن جهة أخرى تواصل مساعي الاتحاديين إلى تتريك العرب، ومحاولة إفناء كيانهم بكل مقوماته الحضارية.
ولئن شابهت فكرة الوحدة العربية القومية الغربية، أو التركية، أو غيرهما من القوميات في مسار تطورها؛ إلا أنها خالفتهم في اتصالها بقيمها المتجذرة في الفكر العربي الإسلامي، وهي بذلك استطاعت الصمود أمام الأحداث والظروف، ولم تتخلف عن أداء دورها التاريخي.
كان من الطبيعي أمام ازدياد النفوذ الاستعماري الغربي أن تظهر للعلن دعوة تجمع العرب وإعادة إحياء كيانهم الواحد، وكانت هذه الدعوة، التي انطلقت شرارتها الأولى من الشام تحت شعار "العروبة" على أنه المشترك التاريخي والحافز الوجداني لذوي اللسان العربي على التكتل من جديد في وحدة صماء، استجابة واعية على قدر تحديات اللحظة التاريخية، وما حملته من أخطار محدقة تجلت في اتساع النفوذ الغربي، وسقوط أجزاء من العالم العربي تحت سيطرته (الاحتلال الإنجليزي لمصر والسودان منذ 1882).
وإذا كانت الإمبراطوريات الاستعمارية هي أول الداعين إلى ظاهرة الوحدة العربية كتكتيك سياسي بغاية فك الارتباط بين العرب والترك، وإضعاف المارد العثماني، وقلب موازين القوى لصالحها، فإن أصحاب القضية العادلة "العرب" لم يكونوا ليؤدوا دور البيادق في لعبة الأمم؛ إلا بعد أن ساروا طويلا في مشوار تأكيد ذاتهم ككيان وجزء من الوحدة الكبرى (وهي الوحدة الإسلامية)، ممثلة في الدولة العثمانية. وما كان العرب مستعجلين للانفصال والاستقلال بذاتهم عن الحكم العثماني؛ إلا بعد تأزم العلاقة مع الترك جراء دسائس الاتحاديين، وكيدهم الذي بلغ منتهاه، فأصبح من الواضح أن استفزازهم للمشاعر العربية ليس له غاية سوى الدفع نحو فك الرابطة بين الأمتين.
هذه الرابطة التي لطالما كان استهدافها على رأس أولويات السياسة الاستعمارية الغربية، حيث بذلت من أجل ذلك مساع دؤوبة وكبيرة على جميع المستويات؛ فكرية وسياسية واقتصادية، وإيقاظ النعرات حينا وإثارة الشبهات حينا آخر، لا لشيء إلا لتمزيق الوحدة التركية العربية، ولم تتوقف مساعي النفوذ الاستعماري عند هذا الحد؛ بل تواصلت في مرحلة أخرى بتعطيل مسار الوحدة العربية، والحيلولة دون تأسيس كيانها السياسي، وذلك بالعمل على ضرب مقوماتها الأساسية من خلال محاصرة اللغة العربية وتهميشها، وتغييب ذاكرة الأمة بتزوير حقائق التاريخ، والطعن في القيم الإسلامية، وإثارة الشكوك والشبهات حولها، هذا كله بهدف تحييد مسار الوحدة عن وجهته الصحيحة؛ لا سيما أن العرب باتوا متيقنين أن المسؤولية التاريخية لاستلام المشعل، واستئناف قيادة العالم الإسلامي فكريا وسياسيا ملقاة على عاتقهم بعد تقهقر الدولة العثمانية، وعندهم أيضا أن هذا المسار الجديد نحو القومية العربية لا يعدو عن كونه تطورا طبيعيا لحركة الإصلاح والتجديد التي عرفتها الأمة الإسلامية منذ بداية القرن الـ19؛ انطلاقا من تصحيح المفاهيم، وتجديد الفكر، وصولا إلى بناء الكيان السياسي الذي يتجسد فيه مفهوم الوحدة العربية. ولذلك ترى الاستعمار قد صب جام تركيزه في عمل الغزو والتغريب على العرب أكثر من الشعوب الإسلامية الأخرى.
منذ انطلاقتها في بلاد الشام كأيديولوجيا، بدت الوحدة العربية منسجمة في مضمونها مع قيم الإسلام، ومتماهية مع جوهره، حيث كان الشاميون يعتقدون الاعتقاد الجازم أن الوصول إلى الوحدة الإسلامية مرهون بتشكيل أولى لبناتها، والمتمثلة في الوحدة العربية، الرابطة التي ستعيد جمع شتات أصحاب اللسان العربي، وتوحدهم تحت مظلة الإسلام، هذا الإطار الأصل الذي استمدت منه العروبة فكرها وقيمها.
وإذا كانت الحركة الطورانية قد بنت تصورها للوحدة التركية على عامل أساسي هو اللغة، حين دفع الاتحاديون نحو الانفصال بين العرب والترك، فكذلك كان تصور العرب لوحدتهم، وهم في موقع الدفاع عن النفس ضد ممارسات الاتحاديين؛ لكن وجه الاختلاف يتمثل في أن الأمة العربية قد حافظت على الحبل المتين الذي يشدها بجذورها، ووقفت بإصرار وتحد في وجه الغزو الثقافي، وأمام كل محاولة إغراء أو احتواء فكري غربي، بينما تنكرت الأمة التركية لمرجعيتها الإسلامية، وانقادت نحو الغرب، واستسلمت لحضارته وفكره؛ لذلك فإن العروبة بكونها حركة وحدة قامت أساسا على العرق واللغة، لا تتعارض أبدا مع الإسلام؛ بل تجري معه في فلك واحد، ولا تنفصل عن الفكر الإسلامي مهما تعرضت للضغوط، ومحاولة إلباسها جبة القومية الغربية بمفهومها الخاص، الذي يقوم على استبعاد الدين بشكل كلي.
والحق هنا أن هذا التصور للقومية، والتوجس من دور الدين، كانت له مسوغاته في السياق التاريخي للتجربة الغربية، حيث أدت الكنيسة دورا سياسيا مؤثرا، ففرضت قيودا على المجتمع والفكر، ووقفت إلى جانب الملوك والطبقة البرجوازية ضد حركات الانعتاق والتحرر، وتجديد الفكر وإعمال العقل؛ لذلك مثلت القومية في المفهوم الغربي حركة مقاومة ضد الدين (المتمثل في الكنيسة) الذي حال دون نهضة الشعوب الأوروبية.
أما سياق الوحدة العربية، فيختلف عن ذلك كل الاختلاف، والإسلام على عكس الكنيسة تماما، فقد أدى دورا إيجابيا، ومثل قوة دفع إلى الأمام لا قوة جذب إلى الوراء، حيث كان يدعو إلى الانفتاح، والأخذ بأسباب الحضارة من علوم ومعارف، ويحث على الاجتهاد الفكري، وجعل طلب العلم فريضة من فرائضه، وكان مرنا في اقتباس ما ينفع من الآخر، ولو كان مخالفا في الديانة، ومتقبلا برحابة للاجتهادات البشرية في التنظيم السياسي والاجتماعي لتكريس الشورى والوحدة بين منتسبيه، وبالتالي كانت المواءمة الحقيقية بين الدين والقومية، التي عبرت عنها علاقة الإسلام بمفهوم الوحدة العربية، وهذا مرده إلى طبيعة الإسلام وجوهره؛ ذلك أنه ليس مجرد منظومة عقائد وطقوس تعبدية؛ بل هو نظام متكامل تتسع دائرته لتشمل المجتمع والفكر والحضارة.
ومن هنا يتأكد بما لا يدعو مجالا للشك، أن الفكر الإسلامي كتراث تاريخي تراكم عبر العصور بتلاقح ثقافات شعوب وأجناس مختلفة انصهرت في بوتقة الإسلام، لا يمكن أن تكون ملكيته للمسلمين حصرا؛ بل هو تراث كل العرب بمختلف نحلهم ومللهم، فإذن وحدة الفكر هذه هي العمود الأساسي للخيمة التي تجمع تحتها كل العرب، واستلهموا منها وحدتهم الجامعة.
وما دعوة أصحاب النموذج الغربي للقومية باستبعاد الدين، وإكساب هذا المفهوم طابعا علمانيا خالصا، وفرضه على الأمة، فهي إما تقدير خاطئ ناتج عن مقارنة في غير محلها بين الإسلام وغيره من الأديان، وإما تكون، وذلك غير مستبعد، دعاية مغرضة، بغاية التشتيت والتفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، الذين لم يجدوا غير الوحدة العربية أوثق رابط.
لا شك أن قيام الوحدة العربية بعد سقوط الدولة العثمانية قد بدد كل مخاوف التشرذم والتفكك، التي خشيها الكثير من أبناء هذه الأمة، فكانت لهم بمثابة الملجأ الآمن والحصن المنيع تجاه التسلط الاستعماري، وتغلغل نفوذه، والصمود أمام كل التحديات الطارئة، حيث استطاعت هذه الرابطة بفلسفتها وفكرها المتجدد أن تبعث الحياة من جديد في تراث هذه الأمة، ولغتها، وتاريخها، والدفع بكيانها السياسي إلى الظهور من جديد على مسرح الأحداث كقوة فاعلة ومؤثرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.