شعار قسم مدونات

العسكر في مواجهة الحراك.. البحث عن رمز مفقود

عسكر الجزائر يخشون الفراع الدستوري والمدنيون يخشون الفخ الدستوري

 

ظهر ثم اختفى وأخفوه، ثم بعد ذلك أعادوه إلى ثالث منصب قوي في المؤسسة العسكرية، كان يدا غامضة حصدت رؤوس العصابة حتى لقب بـ"المنجل"، لا تعرف المساحات التي جال فيها وصال، وما هي الحدود والهوامش التي تحرك فيها بوصفه قوة ضاربة زلزلت فيما مضى الأرض تحت أرجل الإرهابيين، وتقدم الصفوف التي واجهت وصمدت أمام جحيم النار التي أتت على كل شيء.

ثمة مسارات توضع على الطريق لرجال لا تعرف هل خرجوا من الطين أو من الأرض، سيان الأمر، خطواتهم تغدو منسقة ومترابطة، وفيها الكثير من البطء والتريث والحسابات، وحين تنكشف أقدارهم يسيرون نحو مصيرهم، وهم مقتعنون تماما أنه لا مجال للانحراف والتزحزح؛ لأنهم على الطريق السليم.

 

اللواء محمد قايدي رمز مفتقد أم مغيب؟

ذلك حال اللواء محمد قايدي، الذي انشق اسمه ضمن حراك صاخب هز عرش من حكموا الجزائر طيلة 20 سنة، خرج كاللمع وطاف في المخيلة، في المواقع وفي الصالونات وفي محركات البحث داخل الإنترنت، وفي غيرها من الأمكنة الرسمية عامة أو خاصة، بدا كأنه الشخص المفتقد، الرمز الغائب ضمن رموز أخرى يتزاحم بعضها للتموقع، وأخرى تآكلت وصدأت ولم يعد لها أثر أو علامة ترى.

عسكري وإنسان مثل أي إنسان جزائري أصيل، صورته، التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، تظهره صارما وخجولا وعميقا.

حروب الإرهاب ومآسيها صنعت له كاريزما محارب أسبرطي، حتى وهو يتحدث في فيديو نادر احتوته الحماسة والغضب، صار مثل ذلك الساحر، الذي يجذب مستمعيه إلى حلقته، وهو يدرك أن أرصدته في التأثير ستبلغ مداها المقدس النبيل، والتي قال إنها خلقت وضعا يتراوح على جبهتين الحق والباطل، الخير والشر، الظلم والعدل. إنها حكاية صراع أزلي مرتبك مقلق بين ثنائيتين، بين أشخاص يعتقدون أنهم على هدى وغيرهم على ضلال ووجب قتالهم، وبين جبهة أخرى على الخط نفسه؛ لكنها تتفيأ ظلال الواجب المقدس والانضباط، ومطلوب منها الدفاع والمقاومة حتى لا تسقط البلاد في أتون الفوضى والتخريب والدمار.

منذ تلك اللحظة الجنونية التي مرت بها الجزائر، ومنذ تلك البدايات المحمومة بالتحدي وروح القوة والاندفاع في حرب كسيرة وتراجيدية، بات قايدي ذلك القائد الذي تحوم حوله الأسئلة الساطعة وسط الحراك؛ من هو؟ من أين جاء؟ كيف هو شكله؟

أسئلة التفت ودارت وترددت في الليل الطويل لجزائر انتفضت هنا وهناك.

مثله مثل الجنود بمختلف الرتب الصوامت، الذين لم تكتب بعد تواريخهم وما فعلوه في ميدان الموت، الذي لا يهابونه ولا يعرفون له وجها، تحولت تلك الأسئلة إلى برهة ومصير يصنعان في مخيال المجتمع يعجن رمزيتها ويلقي بها على الأرض بدون حسابات أو خلفيات، فهولاء الجنود هم سلف المجاهدين، الذين كافحوا، واستشهد الآلاف منهم في حرب غير متكافئة مع المستعمر الفرنسي، وبات في مقدورهم، وهم يرون الجزائر بعدما كانت غارقة في سديم الموت والعبث أن يطمئنوا، وتسجل بطولاتهم في روزنامة التاريخ والذاكرة.

ضباط وعساكر من طينة أخرى جبلوا على الصبر والثبات، كانوا عتاة على الظلم والقهر، تسمع أسماءهم أو ألقابهم، ولا ترى صورهم؛ إلا فيما ندر بل سقط بعضهم وبقيت فقط شواهد القبور حية وغريبة تنطق عنهم، بعد سنوات مؤلمة سيبرز هو من بينهم الغني والثري في المخيال، مفاجأة خارج السياق المعتاد في النظر للعسكر الموصوف بالاستبداد والقوة والتسلط، ارتسمت للساحر صورة أخرى أقرب إلى الضمير والقلب، حافظ للقرآن ومتقن للغات وفذ في التكنولوجيات، سهل ممتنع يمشي بين الناس، والأهم أنه مثلما قهر فيما مضى الإرهاب، ها هو قد مضى مثلما قيل وتردد في حصد رؤوس الفساد، مهمة أوكلت له أم لم توكل له، المهم أنها نفـذت وتغلغلت في وجدان الجميع وسيطرت عليه، حظي بعدها بلقطات مصورة تمر منخطفة وسريعة عليه، وباحتشام مدروس تتعقبه وتقتطع من تغطيات لأنشطة عسكرية رسمية.

 

عقيدة العسكر الصامتة

تلك هي الطريقة والأسلوب والمنهج المعمول به في الإعلام الرسمي والحكومي، ما هو مسموح به ولا يضر، وما ليس مسموحا به لا يغتفر، فلقد دأب العسكر في زمن ما على قلب الدنيا حالما تظهر بالخطأ صورة الشبح توفيق رئيس جهاز المخابرات سابقا في التلفزيون، تتصدع الدنيا، وفي أحسن الأحوال تسقط الرؤوس في صمت.

صورتان محوريتان صنعتا للعسكر واجهة؛ المحو والظهور، الخفاء والتجلي، الأسطورة والواقع، السكون والصخب، ظلال متخفية وراء الحجرات والستائر، الآمرون الناهون في كل حين وآن، البوصلة والاتجاه، من بيديهم الملكوت والبيان والقرار، غطاء ومعطف يخرج منه كل شيء، لا صوت يتمدد فوق سمائهم، ولو كان خافتا.

وعلى الرغم من كل هذه الحقائق المتواترة عن العسكر، وما يقال عنه ويتردد، فقد بقي وحده الصامت الأكبر لا يلوح بسيفه جهارا؛ بل يبقيه في الغمد، ويتحرك وفق قواعد مضبوطة ومحصورة ضاربة في عقيدة عسكرية تتدفق بين صفوفه عنوانها الأكبر لا نتدخل في الشأن السياسي، ولا نعرف الطريق إليه.

رافق هذا الوضع المعقد بناء الدولة الجزائرية من الاستقلال، وظلت العلاقة بين العسكري والسياسي مربوطة في عنق النظام، وكانت الغلبة فيها دوما لتوافقات بين عائلة العسكر وأبناء النظام الأوفياء، وحين يصل الصراع للذروة تنحل العقدة وتتبخر بمجرد همسة أو زلزلة من القوي المتين، تأتي من غرف سرية للعسكر، يعرفون كيف يتحكمون في درجة الخضة ويمتصون الارتدادات ويضعونها في علب مغلقة.

لكن سرعان ما سيتلاشى هذا الهدوء والطمأنينة وتتفاقم حدة النظرة المريبة إلى المؤسسة العسكرية خاصة في السنوات الأخيرة، حيث لا أحد كان يتوقع أن يقاد خيرة رجالها إلى السجن، وتخرج الأسماء القوية إلى العلن في قضايا فساد واستغلال النفوذ، صحيح أن ما وقع أحدث الارتباك والحيرة داخل المؤسسة، وعالجتها بالكثير من الحكمة والاحتواء وأيضا بالأخطاء؛ لكن هذه القضايا والترميمات المسكنة لها أخذت أبعادا أكبر من مجرد كونها أخطاء قاتلة؛ بل لطخت سمعة الجيش، ووضعته في سلة واحدة داخل شارع انتفض ضد القهر والتحقير والفقر واللاعدالة والظلم، وتحرك ضد كل أركان الدولة والنظام، وما لم يكن في الحسبان هو أن يفاقم تذمره وسخطه ضد الجيش والمخابرات.

فبعدما كانوا أبطالا ووقفوا إلى جانبه في الاعتداد بما يطلبونه ويطالبون به؛ بل كانوا سدا منيعا وحماة لظهرانين المتظاهرين طيلة سنة أو أكثر، صاروا في مرمى نيران كاسحة وهجوم عنيف ونقد صارم وتجريح وصل حد التشهير، لم تعد تنفع مقولة "الجيش خوا خوا"، فالذين قالوا ذلك بالأمس انكفؤوا وصمتوا، وتصاعد صوت غريب مريب محسوب ودقيق "الجنرالات في المزبلة" أو "المخابرات إرهابية".

كيف غدا الجيش الشعبي الوطني التسمية الوحيدة للمؤسسة في العالم (إلى جانب الصين) المستمدة من عمق الشعب ومن روحه، تسمية ليست طائفية، ولا حكرا على عائلة واحدة أو مذهب واحد، ولا هي متعلقة بزعيم واحد أو دكتاتور، كيف غدا منكرا ومتصفا بمواصفات مشينة وغير قابلة للفهم؟

 

صورة العسكر عن قرب

صورة درامية للمشهد وقاسية أجيال جديدة لا سلطة لأحد عليها، حين كان قايدي وغيره في معمعان الحرب والدم والحديد، حين كان الحريق يشتعل في شوارع الجزائر، ويتمسح الموت بظلال الطرقات والأحراش والقرى، كان هؤلاء رضعا أو في أعمار لا تسمح للوعي أن يكبر بين جنبات البيت الصغير للعائلات الخائفة من مصير مجهول يترقبهم، ويقذف بهم إلى يوم لا يعرفون هل سيكونون فيه من الأحياء أو الأموات.

مرة أخرى ما الذي صلب الحراك حول العسكر ومخابراته؟ المفتنون بسحر الحراك وهوله وأهواله يرددون أن هذا مسار منطقي للرفض والتمرد وممارسات قيل إنها نبعت في ثكنات مظلمة وسرية، والطرف الآخر يقول في رواياته إنها خطط ومؤامرات ودسائس حيكت في مخابر داخلية وخارجية ودول وتنظيمات معادية للبلاد.

أصبحت المواجهة تنذر بالخطر، وأصبحت معها طرق تليين الأعطاب والانكسارات وتهدئة النفوس والأهواء صعبة ومستحيلة، فلا النظام سيسلم بسهولة ولا الشارع المتشكل اليوم بملامح أخرى غير تلك التي ارتسمت في بداية الانتفاضة أو الثورة أو الحراك سيستسلم.

 

ويبقى السؤال الأهم هو كيف سيعيد الجيش أو العسكر نصاعة صورته التي انكمشت، بعد أن ازداد العداء المنتظم ضده فجأة وعاد الشارع إلى الشارع؟ كيف ستفلح البيانات أو التصريحات التي تصدر عن كيانات أوكلت لها مهمة الدفاع عن المؤسسة وهي عاطلة عن التفكير ومتبلدة واخشوشنت مسامات جلدها، ومنبوذة، وأخرى لا وزن لها، كيف يتلقاها الشارع الآن؟.

 

لا بد أن ينزل العسكر ويتماس مع هؤلاء مباشرة، مع الإنسان البسيط، أو ذلك الشاب الخائف من غده المجهول، أو تلك المرأة التي تنزل اليوم، وهي تحتضن العلم في رمزية مفعمة بالحب والخوف على مصير مبهم يترصد بأنيابه القاسية، لا بد للعسكر أن يبدأ بتأليف علاقة جديدة وتفاعلية بدون وسيط، لا بد من حوار بسيط وشعبي تقوده نخب العسكر، لا بد أن يحدث انقلاب ناعم في الطرح والتصور لفهم ما استعصى من المشاكل والهموم، وفوق كل هذا يجب على العسكر أن ينقذ الحراك من تيهانه الدوار والمتعب والممل.

كان الرئيس تبون في بداية حكمه يأمل في الدفع باللواء قايدي إلى أعلى هرم المؤسسة العسكرية بعد وفاة قايد صالح، فربما رأى فيه وجها رمزيا بارزا يمكنه أن يقلل من تهافت الانكسارات الصامتة، التي شقت قلاع الجيش، ويمكنه أن يجلس مع أي شاب يتقاسم معه قهوة مرّة مثلما يتناولها يوميا في أي مقهى شعبي ويحكي معه عن كرة القدم وهموم الحياة ومشاغل الدنيا؛ لكن حلمه انحسر، لأن شروط ذلك لم تكن متوفرة، ومواجهة صقور الجيش ليست بالأمر الهين أو السهل، والرهان الأكبر اليوم هو من سيوقف حراكا عنيدا، ربما يعود "الساحر" من غيبته ويصعد إلى منصة الشارع، ويلهمه أفقا ومخارج من فتنة التيه الطويل.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.