شعار قسم مدونات

كلوب هاوس.. 10 ملاحظات سيكولوجية

 

في الربع الأوّل من العام الحالي، دخل تطبيق جديد للدردشة الصوتيّة عرف باسم "كلوب هاوس" (Clubhouse)، على خارطة وسائل التواصل الاجتماعيّ مضاعفا قيمته السوقيّة في فترة وجيزة عشرات المرات، بعد صعود صاروخي لعدد المشتركين في غرفه الصوتية. وفي هذه التدوينة الوجيزة، أود الوقوف على جملة من الأفكار عرضت لي أثناء تجربة بسيطة داخل التطبيق، أجملها في 10 أفكار.

 

أولا: في حميميّة الصوت، أو لِمَ في البدء كانت الكلمة؟

من الملاحظ اليوم، رغم ذيوع الوسائط البصريّة اليوم من صور وفيديو، بأنّ هناك عودة من الارتباط القصدي بوسائط الصوت، والتي منها "بودكاست" (Podcast) وتطبيق كلوب هاوس، وغيرهما، ومرد ذلك، فيما أحسب، لعدّة أمورها أجلاها وأوضحها أنّ عمق هويتنا ووجودنا الإنساني يتحدد في "الصوت" بما هو عتبة أولى في تشكّل ذواتنا، وتكوين علاقاتنا بالآخرين، وبالعالم الكونيّ الكبير.

على المستوى السيكولوجي، يقع الصوت في العمق من مؤشرات الهوية المختلفة، إذا ما قورن مثلا بالصورة الجسديّة على سبيل المثال، ما يعني أنّ مقبولية البشر لأصواتهم لا يدانيه شيء من هذه المؤشرات (صورة جسديّة، عرق، جنس، وضع طبقي).

وفي العلوم العصبية، حساسية البشر للصوت تتفوق على الصورة 10 مرات، فعلى سبيل المثال، يقدر البشر على استحضار 170 صورة في جلسة واحدة، بخلاف الصوت الذي نقدر معه على تذكر 1700 صوت في جلسة واحدة.

ووفق ساميا ساندري في كتابها "الصوت: بوابة الكون"، لا يتقوّم بنيان أكبر مؤسسة عرفتها الظاهرة الإنسانية لإنتاج المعنى؛ أي "الدين"، من غير "الصوت"؛ أي ما يجيء على هيئة (ترانيم، وصلوات، ومناجاة)، وحتى البوذية التي تقوم على الصمت في عديد من تعاليمها، فهي تقوم أساسا على محاولة سماع الصوت الداخلي، وهنا لا يكون الصمت إلا أعلى الكلام، وأجلى الأصوات، وعلى ما يقوله أبو حيان التوحيدي فإن:

"الصمت كلام على الكلام".

ثانيا: من الزوم إلى كلوب هاوس، لا خشية من وجوهنا

في سياق المقارنة، اعتماد التطبيق على الصوت، تجاوز أهم ما يثقلنا على برنامج مثل "زوم" (zoom)؛ أي "الصورة"، ومن المعروف اليوم في "علم النفس" بأنّ ما بات يعرف بـ"إعياء الزوم" (zoom fatigue) سببه الأساسيّ حضور صورتنا الدائمة على الشاشات، والذي يشي بمحاولة اختزال وجودنا في لقطة الوجه، أو ما بات يعرف بالإنجليزيّة اليوم بـ"living headshot".

 

ثالثا: من الصوت إلى الأعمال

عوامل رواج التطبيق عديدة، ولا تتوقف على استثمار "حميميّة الصوت" ثيمة أساسيّة في تجربة المستخدم، إذ يمكن الحديث عن غير واحد من العوامل، مثل العزلة المفروضة علينا بفعل الجائحة، والتشكك في بعض الوسائط مؤخرا؛ بسبب سياسات الخصوصية، وبحث الناس عن وسائط بديلة (سيغنال، تطبيقات قومية)، مع ما ترافق من دعم بعض السياسيين ورجال الأعمال الكبار لهذا التطبيق.

 

رابعا: في مغبّة كشف الذات والفضفضة للغرباء

قوام المنصة على قاعدتين؛ الدخول من غير استئذان، والخروج بهدوء، وهي العبارة التي تنصب لك داخل أيّ غرفة نقاشيّة "الخروج بهدوء" (leave quietly).

الدخول من غير استئذان والخروج بهدوء، يعرّضان المرء لخطر "الفضفضة للغرباء"، أو "كشف الذات" لغير الثقات، وبذلك تتحول المنصة إلى أريكة فرويديّة كبيرة (وفي داخل التطبيق عشرات الغرف التي يكون موضوعها الأساسيّ كل يوم الفضفضة المشتركة وكشف الذات).

 

وخطر الفضفضة للغرباء، وكشف الذات لغير الثقات، فيه 3 مشاكل أساسيّة:

  • جهل من هو أمامك بفنيات، وتقنيات، وأخلاقيات العلاج والدعم النفسيّ، وهذا بدوره قد يزيد من مشاكلنا ومعاناتنا، وقد يورّطنا فيما لا نحسب، ولا نحبّ. ويزيد أيضا من احتماليّة ظهور ما يعرف بـ"المشاكل علاجيّة المنشأ" (Iatrogenesis).
  • من المحتمل أن يعبر المستخدمون عن عواطفهم السلبية عبر الإنترنت لإنشاء روابط اجتماعية حميميّة، وتشير دراسات "الفضفضة المشتركة" (Co-rumination) إلى أن تبادل التجارب السلبية يمكن أن يعزز الروابط العلائقية؛ لكن في الوقت نفسه ونظرا للتحكم الذي توفره إعدادات الإنترنت للعرض الذاتي للمرء، فإن الأفراد يقدمون أنفسهم بشكل أكثر شيوعا بطريقة اجتماعية مرغوبة أحيانا؛ أي بشكل إيجابي. وعلى ذلك، فإن غياب الإشارات غير اللفظية، والقدرة على التحكم التي توفرها الإعدادات عبر الإنترنت تسهل أيضا "تنقيح" disinhibition)) هذه الصورة، اعتمادا على الانطباع الذي يريد المرء تحقيقه.
  • الفضفضة المواتية والسهلة لكلّ أحد؛ ليست إلّا تعبيرا عن ذوات هشّة كليلة، لا ترغب في حلّ أزماتها حقيقة، وإنما لديها رغبة في التسوّل العاطفي والثرثرة. وفق ما يقوله نيتشه "من يكشف للغرباء عن مشاعره، كمن يكشف لهم عن قفاه".

 

خامسا: الخوف من ألّا تكون معروفا

يشخّص المعالج النفسي كارلو سترينجر أزمة عالمنا المعاصر والبحث عن المعنى في القرن الـ21 في عنوان كتابه "الخوف من الهامشية" (The Fear of Insignificance) أو ما يترجم "الخوف من أن تكون نكرة".

عالم ما بعد الأيديولوجيا والفردانيّة وتفكك القيم الكبرى والعيش في المدينة، والغرق في سيولة قاتلة تلفّها دعاية ليبرالية تجري على ألسنة دعاة التنمية البشرية "أنت قادر، وبإمكانك، وأنت تستطيع… إلخ" بحيث يبقى المرء لاهثا بحثا عن ذاته بين الأضواء، وعلى مسارح المنصات الاجتماعيّة، بخلاف أجداده الذي وجدوا أنفسهم في سياق يقيهم هذا الظمأ الوجوديّ كما شرحه سترينجر بطريقة ذكيّة.

على "كلوب هاوس" يلج أحدنا من غرفة لأخرى، ومن نقاش لآخر، حتّى يقول للناس أنا هنا، أنا لست غفلا، أو غمرا، وكأني بابن ندبة العبسيّ، وهو يقول "تأمل خُفافًا .. إنني أنا ذلك"

وعلى أي حال، هذا الخوف من "الهامشيّة والمغموريّة"، التي كانت طلب العلماء والعارفين على الدوام، كما أبان عن ذلك محمد الشيخ في كتابه "الحكمة العربيّة"، ليست إلا تعبيرا عن علمنة أو دهرنة الخلود الحقيقي، الذي بشرت به الأديان، وهل كان العربيّ يفزع من الهجاء إلّا خوفا من انطماس الذكر بعد الموت، وكفرا بالحياة الأبديّة الحقيقيّة، التي فيها الذكر الحسن حقًّا؛ وذلك بأن يكون الواحد من زمر الراتعين في رياض الجنان المونقة؟

 

 

سادسا: وهم الأهميّة وتقدير الذات الزائف

يخلق التطبيق لدى مستخدميه "وهم الأهميّة". في البداية تنتابك "مشاعر التقدير السلبيّ للذات"؛ لأنك لم تتلق دعوة بعد، وحين تتحصل عليها، تذرع الغرف الصوتيّة من أقصاها لأقصاها، في محاولة لإرضاء نشوتك وفحولتك بأنك صرت مهما، تتلقى الدعوات، وتحادث الرجال في الدين، والسياسة، والأعمال، ووفق مبادئ الاقتصاد السلوكي "تبدو الفرص أكثر قيمة بالنسبة إلينا عندما يكون توفرها محدودا".

 

سابعا: من علامة المقت إضاعة الوقت

جزء كبير من هذه الغرف الصوتيّة، ليس فيه إلّا الضجيج والصخب والمرافعة عن المعادن، ويحسن بالإنسان العاقل تجنّب السفه، والحرص على ما ينفع، واطّراح كل ما لا تسر رؤيته في صحائفنا يوم أخذ كتابنا بيميننا.

 

ثامنا: هابرماسي لا يعمل في كلوب هاوس

الرهان السياسيّ على هذه المواقع، لا أؤمن به، ولا أراه معقولا؛ بل محض وهم، وذلك ليس على قاعدة "خوارزميات الاضطهاد" (Algorithms of Oppression) كما شرحتها صوفيا نوبل أو "فقاعة الترشيح" (Filter bubble) كما شرحها إيلاي بيرسير، وإنما على قاعدة "قوة الطرد المركزي" التي تعوق تشكيل جمهور، أو مجال عام هابرماسي، كما شرح ذلك بيونغ تشول هان في كتابه "في السرب " (in the swarm) بشكل ذكي وفريد.

 

تاسعا: في طبقيّة حزب التفاح

التقسيم الطبقيّ، والإثني، والجندري، والعمري حاصل في كل التطبيقات، وهذا يتشكل عادة بناء على محكات مختلفة (تجربة المستخدم، نمط المعاش اليوميّ، والسياقات الشخصيّة، سياسات الخصوصيّة)؛ لكن الحديث عن مزاج طبقيّ، وعنصريّ يحكم تطبيق كلوب هاوس بناء على الانتماء الحصريّ لـ"حزب التفاح" وتنظيمات الـ"آي أو إس" (IOS) شرطا أساسيا يؤهلك لإمكانيّة دخول هذا التطبيق، فيه مجازة كبيرة؛ إذ إنّ قصة انحسار التطبيق في نظام تشغيل آبل، له علاقة بحداثة التطبيق، وارتباطه بمشغل آبل، ويعود ذلك لأن التطبيق أميركيّ في أصله، والأميركيّون بالمجمل يستخدمون نظام آبل؛ لأنه أرخص من غيره في تلك البلاد، وعلى ذلك يكون السؤال للمطور لمَ سأعمل على تهيئة التطبيق لنظام تشغيل لا يطلبه السوق؟، أما وقد غلب العرب نظراءهم الأميركيين في الاستخدام، فما أحب المطوّر من أن يضيف نظام الأندرويد لضم ملايين العرب المتلهفين على الأبواب.

 

عاشرا: من يسرق أوقاتنا؟

الإغواءات المفرطة لهذه المنصات تقتل استعدادنا الطبيعي والبدهي للعيش وفق إيقاعاتنا الخاصة، بدون تطّل منها، أو محاولة جعلنا جزءا من جمهورها. وعلى ذلك يكون تحديد هدف الدخول لأيّ منصّة عملا مهما وجليلًا، وبغيره نعرض أوقاتنا للتلف، وأنفسنا للضياع، أو الخوف من الضياع جريا على ظاهرة "الخوف من فوات شيء" (FOMO) التي استفحلت مع الصعود التاريخيّ لمنصات التواصل الاجتماعي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.