شعار قسم مدونات

الحكمة المطَمْئِنَة

 

يأتي العام 2021 منذ بدايته ليكمل مسير العام 2020، وكأن هذين العامين قررا أن ينهيانا جميعا، كأن شخصا ما قد دهس لهما طرفا، فقاما غاضبين علينا جميعا، نزوحٌ وأزماتٌ كبرى، سباق عالمي بين المطبعين، ومن كثرتهم أخشى أن أفتح كيسا من البطاطا، فأجد أحدهم فيه، لم نقم من صفعة الواقع السياسي بعد، لنتلقى صفعة أخرى في منتصف جبهة البشرية كلها، سلالة جديدة من فيروس كورونا، بريطانيا تعلن أن الفيروس "خرج عن السيطرة". فيروسٌ متناه في الصغر، يقلب الكوكب رأسا على عقب، دول العالم تتجه لموجة ثانية من الإغلاق خوفا مما قد يحدث. قالها أبي لأمي حين كنا في نقاش عائلي مصيري أجريناه مساء البارحة بناءً على كل هذه المستجدات "الدنيا دلوقتي عاملة زي الخلاط اللي بيلف لفتين تجاه اليمين بأقصى قوته، بعدين يقف يلف لفتين تجاه الشمال، يهربد فيك من الناحيتين.. وإحنا جوا دايخين مش ملاحقين..".

قالها ساخرا؛ لكننا في عصر يثير السخرية والجد على حد سواء، أصبح متوسط جملنا اليومية الآن يحتمل كثيرا من الكوميديا السوداء، نسخر -وفي قلوبنا بعض الظن الجاد- أن العالم على وشك أن ينتهي.

أما أنا، فيستحثني قلمي أن أجيب عن هذا السؤال، ماذا حلّ بالإنسان؟ ما الذي يحدث في هذا العالم؟ ما هو دوري أنا؟ هل يمكن أن تكون موجة الإغلاق الثانية أسوأ من الأولى؟ هل يمكن أن اللقاح لن يُعالج السلالات الجديدة من الوباء؟.

لا أدري؛ لكن مما لا شكَّ فيه أن كثيرا من فلسفات العالم تتحلل وتتبسط في أوقات الأزمات، فكل التصورات التي أنتجها الإنسان حيادا عن منهاج الله، إذا ما اختبرت أمام أزمة مثل انتشار وباء عالمي فتاك، ستتساقط تباعا كأنها كانت مبنية من ورق.. بعض الرياح أزاحتها. إن كل قيم الرأسمالية، وكل النظريات العلمانية، وكل الفلسفات الأخلاقية أمام خوف الإنسان على روحه وأسرته تتهاوى وتُنسى. تخيل معي إذا ما تأزم الوضع إلى ما يشبه أفلام الزومبيز، مناطق معزولة بالكامل، والقصور الرئاسية والحكومية تصبح ملاجئ عامة لمن تبقى معافى من السكان، وكلّ شيء مباح تقريبا. هل سيراعي الإنسان حرمة أخيه الإنسان؟ أي قانون دولي سيمنع الإنسان -هذا على افتراض أنه منع سابقا أصلا- أن يتحول لوحش يقتل ويسرق غيره لأجل بعض المؤن الغذائية؟ أو فتات الأدوية المتبقية؟ أو حتى مكان يدفئه من البرد؟ الآن خذ هذا النموذج الهوليودي، الذي ربما رأيته في أحد أفلام الخيال العلمي، ويمكنك أن تضع مكان الصراع على المؤن الغذائية الصراع على "عبوة ديتول مطهر" أو "كمامة إن-95" (N-95) أو لقاح شركة "فايزر" (Pfizer). بالنسبة لي، سيناريو حدوث ذلك وارد جدا. وافقتني أو خالفتني، النتيجة في الغالب واحدة، والإجابة على هذا السؤال غالبا واحدة. في أزمنة غياب النظام والفوضى وتفشي الهلع، لن يحمي الإنسان ويقيم النظام إلا "تقوى الله"؛ إلا ذلك الرادع الإنساني المخلوق في فطرة الإنسان. فلماذا الكبر إذن؟.

سألت زوجتي قائلا فماذا عن الضعفاء ومعتقلي الرأي إذا ما تفشت فيهم السلالات الجديدة؟ هل تحملوا الأولى ليتحملوا الثانية أصلا؟ من يحميهم؟ وهل يحتمل الأهالي الظلم والبلاء؟ استشعرت زوجتي الهَم في نبرتي. أجابت بسلاسة وسكون خلّاب، وقالت "أحمد أنا مؤمنة أن الواحد مش مطلوب منه يغير العالم.. المجتمعات نتاج أفراد.. والأفراد نتاج أفكار.. والأفكار نتاج ناس تتكلم عنها وتتأثر بها.. أظن دور الواحد في الحفاظ على فرائض دينه الأساسية والتأثير في اللي حواليه.. هو أي تغيير حييجي إزاي؟ حييجي لما تفكر في تغيير العالم وسايب تغيير نفسك وأهل بيتك؟".

سمعتُ هذا الحديث سابقا في محاضرات أيمن عبد الرحيم والشيخ حازم أبو إسماعيل، وقرأته في كتب مالك بن نبي وأبو الحسن الندوي؛ لكنها قالتها، وكأنني لم أسمعها من قبل.

أكملت قائلة، وهي تنظر إلى أفق الطريق وأنا أقود السيارة على يسارها "وأنا يا أحمد مؤمنة بفكرتين.. ربنا مبيديش أصعب معاركه إلا لأقوى جنوده. المعتقلين اللي جوا -الله يفك أسرهم ويحفظهم من أي سوء- ربنا لا قدر الله لو ابتلاهم ففي فكرتين أساسيتين. الأولى إنهم أهل للابتلاء، وربنا لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهما مما لا شك فيه قادرين يستحملوه إذا ربنا ابتلاهم به، ثانيا، إنه ابتلاء ربنا ليهم تنقية لذنوبهم وتقريب إلى الله، فالحمد لله على الابتلاءات اللي بتفكرنا بربنا وتخلينا نستغفر ونتوب ونعود إليه". نظرت إليها بإكبار. لا يحتاج الأمر إذن إلى أفكار عميقة و"فلسفة"، العمل قدر الاستطاعة، والايمان بأن القدر غلاب، وأن أمر الله نافذ، وأنه وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. الفكرة بهذه البساطة حقا؟.

وأنا أكتب هذه الكلمات أبحث عن نهاية للمقال، أنظر من الشباك الذي بجانبي في المقهى، لأرى رجلا هنديّ السمار يجري مع ولده على الكورنيش، يسابقه، و الأم جالسة على أحد الكراسي ترقب الأب مع ابنه يلهوان، لا يدرك هذا الطفل قطعا عمق ما يدور حوله؛ لكن الله زرع في قلبه يقينا وأملا جعل أكبر همه أن يصل إلى أمه، ويسبق والده جريا بجانب البحر، جعل الله له جنته في صدره، وجعل رؤيته لهذا العالم مختلفة كثيرا عن رؤية غالبيتنا الآن، حكمة الله أن يجعل حياتنا اختبارا لنا، وأن يجدد ويحفظ بعلمه وقدره حياة البشر، فتبقى قدر ما شاء الله أن تبقى، فيكبر الطفل وتتجدد تجاربه و خياراته، كأنه خُلِقَ وحده يقرر خياراته. ويتحمل الإنسان نتاج أفعاله؛ ليعلمه الزمن، ويحاسبه خالق الزمن على ما كان منه. كم هي مطمئنة هذه الفكرة، كم هي مطمئنة!.

ما بين ثقل ما نرى وأملِ ما يرى الطفل الذي أراه الآن، تقع حكمة ربانية بالغة تخفى على الكثيرين، لا يدركها إلا الفائزون المستبصرون، لربما الوقت جزء من الحل إذن، ولربما على المرء أن يعمل وينتظر جلاء تلك الغشاوة عن بصيرته، فيرى بعضا من حكمة الله ليطمئن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.