يشتغل المؤرخ والمفكر الفرنسي مارسيل غوشيه منذ أكثر من 40 سنة على قضايا الدين والحداثة، والدين والسياسة، وعلاقة الأديان التوحيدية وخاصة المسيحية بالدولة والديمقراطية. والملفت أن صاحب مقولة "انحسار الدين"، لا يجد تعارضا بين الإسلام والديمقراطية. نحاول هنا أن نعرض بإيجاز ودون نقاش يذكر، لموقف مارسيل غوشيه من طبيعة العلاقة بين الأديان "التوحيدية" والسياسة في العلم الحديث، وخصوصية الإسلام.
خروج الدين من العالم
يعرف مارسيل غوشيه بأنه أحد منظري فكرة نهاية الدين، وقد اشتهر بكتابه "فك السحر عن العالم " الصادر 1985، الذي سلط فيه الضوء "على ما كانت عليه سلطة الدين التنظيمية في المجتمعات الإنسانية"، والطريقة التي اتبعها الغرب للخروج من الدين. عنوان الكتاب في الأصل عبارة للشاعر شيلر شهَّرها ماكس فيبر كمفهوم تحليلي للحداثة والعلانية الغربية. شدد غوشيه في الكتاب على أن هذا العصر هو عصر الخروج من الدين. وطوّر أطروحته لاحقا لكنه احتفظ بجوهرها. يتحدث غوشيه أساسا عن علاقة الدين والسياسة في التاريخ الأوربي، والمسيحية بالذات التي يعتبرها "ديانة الخروج من الدين". وانسحاب الدين لا يعني خروجه من حياة الناس كممارسة فردية، "وإنما الخروج من عالم يكون الدين فيه بحد ذاته منظما بنيويا، ويوجه الشكل السياسي للمجتمعات". وسع غوشيه أطروحته عن حركة "فك السحر عن العالم" في عمل من أربعة أجزاء تحت عنوان: نشأة الديمقراطية أو ظهور الديمقراطية، صدر الجزء الأول 2007 والرابع 2017، وطموح هذا الكتاب"هو دراسة حدة هذه الحركة، وتطوراتها الأخيرة، عند ما أخذت طابع تكريس قدرة الإنسان على كم نفسه بنفسه" دون العودة إلى الدين. ولكن من المفارقات أن انحسار الدين عند غوشيه لا يعني تقدم العلمانية، إذ "بالموازاة مع تهميش الكنائس أمست العلمانية بدورها واقعة بلا روح".
اليهودية-المسيحية والدولة
يقرر غوشيه أن تجربة الديانة اليهودية وطبيعة المسيحية سهلا مسار خروجهما من السياسة في المجتمعات الغربية-الأوربية الحديثة. لأن اليهودية "عملت على إعادة تعريف نفسها كديانة لشعب الشتات .. وترتب عن ذلك احتماء اليهودية بالهوية وانقطاعها عن السياسة". في حين أن طبيعة المسيحية ذاتها في تصورها للألوهية ساعدت على انسحابها من السياسة. كتب غوشيه "الدين في الديمقراطية 1998، وهو كما يقول محمد الشيخ "كتاب في المراجعات والمفارقات". هدفه مراجعة العديد من المسلمات حول العلاقة بين الدين والدولة والديمقراطية في الغرب عموما وفرنسا خصوصا. ينطلق غوشيه من مسلمة فمادها أن ما نراه من قطيعة بين الدين والدولة ليس على ظاهره. لذلك يستعمل مارسل غوشيه مفهوم الخروج من الدين لتوصيف العلاقة بين الدين والدولة ومسار الحداثة، بدلا من مفهوم العلمانية لأنه مشوش في نظره. يلح غوشيه على أن العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية في أوربا الحديثة ليست قائمة على القطيعة المطلقة، بل هي أقرب إلى القلب، أي " تحول العنصر الديني القديم إلى عنصر آخر غير الدين" أي بروز الديني بوجه دنوي، أو انصهار اللاهوت في الناسوت. وعلى الرغم من أن "هناك هوة ميتافيزيقية تفصل بينهما"، فإن ثمة ما يجمع بين السلطتين، لدرجة أن المسار التاريخي للأنظمة التمثيلية لا يمكن نفهمه إلا انطلاقا من ذلك.
خصوصية الإسلام
تنصب دراسات غوشيه على الديانتين الهودية والمسيحية، وعلى المسيحية بالذات أكثر من غيرها، إلا أنه في أعماله المتأخرة بدأ يتعرض للإسلام من حين لآخر بصفته دينا ينتمي إلى الجذع الإبراهيمي. وبسبب تنامي ظاهرة التطرف المنسوب إلى الإسلام. وينفرد الإسلام حسب غوشيه بثلاثة أمور:
أنه جاء بعد الديانتين التوحيديتين ويعرف نفسه انطلاقا من ذلك، وبهوية محددة هي ختم النبوة. كما يقول غشيه: "الإسلام هو تنظيم وتيسير لما سبق وأن شيد في اليهودية والمسيحية".
- فرادة الإسلام الثانية، هي توطده بالغزو، فقد خلق إمبراطورية ذات نزعة كونية، هي التجسيد لوحدانية الله مترجمة في وحدانية الأمة الإسلامية، وقد لعب هذا دورا كبيرا في طريقة فهم الإسلام لحركة الحقيقة الإلهية.
- طبيعة الوحي في الإسلام، فهو كلام الله المباشر الأزلي، وفكرة الوسطاء غير موجودة في الإسلام. يقول غوشيه " إن الإسلام يساوي بين الناس فيما يخص ولوج الوحي، بحيث يحق لكل مؤمن التوجه مباشرة إلى الله".
وتلك الخصائص الأساسية للإسلام أكسبته خصوصية، جعلته يتميز عن اليهودية والمسيحية بوضوحه وعقلانيته، يقول غوشيه "إذا كان ثمة دين تنطبق عليه مقولة العقلنة الفيبرية فهو الإسلام. وما الإسلام بالفعل إلاّ عقلنةَ لفكرة التوحيد" في الديانتين السابقتين. ونفس العقلنة تنطبق على شروط الوحي، وعلى قواعد تأويل القرآن.
الإسلام والديمقراطية
من اللافت للانتباه أن غوشيه الذي يعتبر خروج الدين من الحياة العامة شرطا لقيام الدولة الحديثة وتحقق الديمقراطية، ينظر إلى الإسلام بإيجابية كبيرة في هذا المقام. ولنفهم أطروحة غوشيه أكثر يستحسن أن نموقعها داخل الفكر الغربي المعاصر. حيث تحتل أطروحة غوشيه منزلة خاصة في النقاش المحتدم حول الإسلام والسياسة. ينقسم الفكر الغربي المعاصر في نظرته إلى علاقة الإسلام بالديمقراطية إجمالا إلى توجهين كبيرين.
الأول: سلبي يقول إن طبيعة الإسلام منافية للديمقراطية إما:
- لأنّ اللاهوت والسياسة متطابقان في الإسلام، وذلك يمنع من الانتقال إلى الدولة الحديثة التي هي شرط الديمقراطية، وهذا الطرح يجعل العيب في الإسلام.
- لأن الرؤية السياسية الإسلامية مثالية قائمة على الأخلاق، ولا ينبغي أن تخضع لشروط الدولة الحديثة المنافية للقيم الأخلاقية، وهذا الطرح يجعل العيب في الدولة الحديثة.
الثاني: إيجابي ويقول إن الإسلام يمكن أن يكون ديمقراطيا من وجهين:
- أن يمر بنفس الطريق التي مرت بها اليهودية والمسحية في الغرب، ويخضع لنفس الشروط التاريخية التي خضعت لها.
- أن طبيعة الإسلام اللاهوتية نفسها تجعله ديمقراطيا إذا تجاوزنا الأمور الشكلية والتجارب التاريخية إلى الحقائق الجوهرية. وهذا صلب أطروحة غوشيه.
ويتلخص موقف غوشيه من ديمقراطية الإسلام في قوله: "لا أرى أنّه يوجد عدم تلاؤم لاهوتي مبدئيّ بين الإسلام والديمقراطية. ويبدو لي أنّه بالإمكان أن نكوّن بيُسرٍ وفي العمق نظرة عن الديمقراطية الإسلامية".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.