شعار قسم مدونات

شداة النبي صلى الله عليه وسلم

 

"حُكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال نعم كنت أخشى العاقبة، فأمنت لثناء الله علي بقوله (ذي قوة عند ذي العرش مكين)" جاء  ذلك فيما رواه القاضي عياض في كتابه الشفا، عند إيراده الآية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ومن خلال هذه الحقيقة التي تبرزها الآية الكريمة، نطل على دور فئة خاصة كانت نفحات النبي  صلى الله عليه وسلم وبركته ورحمته في انتظارها، فبدأ منتسبوها وهَجَهم من هناك؛ إنهم شُداة أفضل الخلق، الذين اختطوا مكانتهم في جغرافيا المحبة، ووجدوا أنفسهم على مهاد الإشراق، قد بَسَمت لهم اللحظات، ووضعهم القدر في الموقف الأكثر يُمنا، فصار صِيتهم مقرونا بالحديث عن الألَق النبوي، ومرتبطا بالسَّفر في عوالم الوجد المحمدي.

قبل فترة قليلة من انطلاقة دولة الإسلام من أرض المدينة المنورة، كان يومها شاعر من قبيلة الخزرج، من بني النجار، اسمه حسان بن ثابت، على مشارف الـ60 من العمر، يطوف في المجال العربي، بصفته أحد المشتغلين بصناعة القصيد، وكان له حضوره العام بين الشعراء في تلك الحقبة، ولم يكن الجميع حينها على علم بأن الصورة، التي سيخلد بها اسم هذا الشاعر بشكل منقطع النظير، لم تعِنّ بعدُ في الأفق، وإن كانت قاب قوسين أو أدنى، وفي فضاء يمنح الشعراء ألقاب التنافس مثل لقب النابغة ذي الصلة بالنبوغ، وصنّاجة العرب التي تلقّب بها الأعشى، كانت تسمية بهيجة ستبسط نورها قريبا على الشاعر حسان، فسيصبح "شاعر الرسول".

كان حسان قد راكم خبرة في التحدث عن الأمجاد وإبرازها في حُلل القصيد، فمَن ذا الذي حينها من الأدباء المهتمّين لم تبلغ سمعَه أبيات حسان السائرة بشأن بني جفنة:

لله درّ عصابة نادمتهم يوما .. بجلّق في الزمان الأول

بيض الوجود كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الأول

لكنه اطرح كل ذلك الهيام المرتبط بالآخرين، ويمَّم نحو مصدر العَلاء الأوحد؛ ليكون في ظلال نبي الإسلام ينافح عن دعوته ويلهج بمدحه، وسريعا كان حسان أثيرا عند الرسول الكريم، وفي المقدمة بين أصحابه للدور الخاص به، وهو الأداء الشعري الذي يقارع كلمات قريش، حيث تصدّر لذلك بمباركة فريدة من رسول الإسلام حين خاطبه "اهجهم ورُوح القدس معك"، وكذلك تم توفير منبر بالمسجد النبوي، في هذا السياق، يُلقي من خلاله حسان قصائده وأشعاره فكان ذلك عنوان رفعة له وميزة باقية.

 

غير أن حسان وطائفة من الذين اشتغلوا من شعراء الصحابة باستخدام الشعر حينها في المعركة، التي تظل خلفيتها متجددة على مر التاريخ، في إطار الصراع البشري بين مفهومي الخير ونصاعته، وأحابيل الشر، لم يكونوا فقط على موضع يَرشقون من خلاله بسهام الأبيات الذائدة عن الحمى، ويصدون بالمجن الأدبي منافحين عن الدعوة الجديدة، وإنما كانوا في الوقت ذاته تعبيرا عن قصة وجدانية سينضوي في تيارها العديد من الشعراء، الذين ما برحوا عبر التاريخ يشدون بمحبة النبي الحبيب مترجمين مشاعر الأمة في نصوصهم من خلال حالة عميقة من البوح والهيام المتفجر، عبر صياغات الإلهام والركون إلى القبس النوراني المشع من ثنايا المعاني النبوية، فكان لهم امتنان للكلمة العربية، وقد أناخت بهم في الموضع الصحيح.

عبْر التاريخ شكّلت زُمَر المحبين من الأدباء خطا شعريا في منهاج القصيدة وأغراض الكتابة، ولاحظ زكي مبارك أن "أكثر المدائح النبوية قيلت بعد وفاة الرسول، وما يقال بعد الوفاة يسمى رثاء؛ لكنه في الرسول يسمى مدحا، لأنهم لاحظوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم موصول الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء"، فمدوا الجمهور العام بأهازيج المديح، التي ظلت  تنام على أصدائها البَلْدات، وتغيب الأرواح بترديدها في حال من النشوة والتماهي مع الحب الدفين.

 

مدائح المحبين

انطلاقا من الفكرة التي تُستشف من الحديث الشريف "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة"، ومن حيث إنه قد لا يتسنى للكل أن ينالوا النجومية جميعا بمضمار واحد، وكان يظهر في المديح النبوي من حقبة إلى حقبة مجددون ورادة لهم عميق الأثر في هذا السبيل، ولا يمكن أن يتم استعراض السلسلة الذهبية لهؤلاء المحبين بعد العصر النبوي، إلا كان البوصيري أبرز مادح، توّجته إبداعاته، حيث تلقت الأمة نصوص البوصيري بالتداول والاحتفاء، ونالت مدائحُه الانتشار الواسع، فلَكَم تعبق بها مجالس الإنشاد وحلقات العلم والنوادي المختلفة وأمكنة التقاء الناس سواء في البيوت وغيرها، حيث تشدو الأصوات بالهمزية:

كيف ترقى رقيّك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء

لم يساووك في علاك وقد حالَ سَنا منك دونهم وسناء

إنما مثّلوا صفاتك للناس كما مثّل النجومَ الماء

أما وقع البردة فيأنسون به وقد بلغت بهم محبة الحبيب مبلغها:

أمِنْ تذكُّر جيران بذي سلَم

مزجتَ دمعا جرى من مقلة بدَم

 

أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من إضَم

 

فما لعينيك إن قلت اكفُفا همَتا

وما لقلبك إن قلتَ استفق يهِم

وهنا، يمكن ألا تغيب مسألة لافتة، وهي أن القرن السابع الهجري، الذي نظم إبّانه البوصيري ميميته المسماة البردة، هو القرن الذي فقدت فيه الأمة بكل لوعة وأسف البردة الشريفة، التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير، حين أنشده قصديته "بانت سعاد"، وذلك وفق ما تضمنته المصادر التاريخية، حيث كتب السيوطي في تاريخ الخلفاء متحدثا عن البردة، التي انتقلت من ورثة كعب بن زهير إلى الخلفاء، فكانت حلّة المُلك، "وأظن أنها فقدت في فتنة التتار، فإنا لله وإنا إليه راجعون"؛ لكن الله في الوقت ذاته قيض للبردة بقاء وحضورا عميقا في الأذهان عبر نجاح القصيدة، التي تسمت بها حينها، وهي قصيدة البوصيري، وسبب تسميتها ما حكاه مؤلّفها من أنه كان يشكو سقما ألمّ به، فقال في ما يرويه ابن شاكر الكتبي "ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى علي بردة"  حيث كانت القصيدة في وجهها الآخر ربما قدرا خاصا بالمحافظة على البردة في مكان مصون في القلوب عظيم في الوجدان، فهي باقية لم يتم فقدها، ومن هنا ظلّت معارضات ميمية البوصيري تترى لا يكاد يهدأ صدى واحدة منها؛ إلا استلمت النغم أخرى، لتحافظ على حضور البردة، وذلك بدءا من قصيدة صفي الدين الحلي:

إن جئت سلعا فسل عن جِيرة العَلم

واقرا السلام على عُرب بذي سَلَم

وليس انتهاء بقصائد رموز النهضة الأدبية في العصر الحديث، كما في معارضة البارودي للبوصيري:

يا رائد البرق يمم دارة العلم

واحد الغمام إلى حي بذي سَلَم

 

وإن مررتَ على الروحاء فامْرِ لها

أخلافَ سارية هتانة الديم

واختطف شوقي الأضواء عبر نهج البردة:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

 

محمد صفوة الباري ورحمته

وبُغية الله من خلق ومن نسم

 

مدرسة واحدة

وهي حالة وجد يلتقي عند تقاطعها المادحون، من مختلف الحقب والأقطار، وقد ملأ التعلق جوانحهم فنجد ابن دقيق العيد منشدا:

تهيم نفسي طربا عندما .. أستلمح البرق الحجازيا

ويستخف الوجد عقلي وقد .. أصبح لي حسن الحِجى زيا

وأما عبد الرحيم البرعي اليماني، فتفيض نفسه شوقا وصبابة، وهو ينظم قوله:

لتبلّغوا المختار ألف تحية .. من عاشق متقطّع الأكباد

قولوا له عبد الرحيم متيّم .. ومُفارق الأحباب والأولاد

صلى عليك الله يا علم الهدى .. ما سار رَكْب أو تَرنَّم حادِ

وقريبا من سياق أبيات البرعي، يقول محمد ول محمدي الشنقيطي (1273 للهجرة) في إحدى قصائده:

بِزمزم غُلَّتي تغلي فمن لئ .. بكأس من مدامتها دِهاق

صَفا نفسي الصَّفا ومنىً مناها

وبالجمرات قلبي ذو احتراق

فإن طِبنا بطيَّتِنا نفوسا .. تنادينا لطيبة بانطلاق

فوافينا الحبيب وذاك أوْفى .. وأوفر ما نؤمل من خَلاق

ودُرنا بالقِباب كما أردنا .. ودُرنا بالنخيل وبالزقاق

ألا يا نِعمَ طيبةُ والعوالي .. وحيطان الحدائق والمساق

هي الدار التي شرفت وتاهت .. على شام المواطن والعراق

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.