شعار قسم مدونات

ارحموني

 

إننا عندما نملأ المساجد صفوفا، ونشق الصمت القابض على النفوس بالتمتمة، ونوغل في تصنيف ألوان الزائد من الحياة بين المأكول الفاني والملبوس البالي إلى إسلامي وغيره، لا نكون قد وقفنا على مبادئ هذا الدين العظيم وأفكاره المتجددة، وقوانينه العالية، وتشريعاته السامية، التي تعاف هذه الصورة الناقصة منه -والتي يدفعنا نحوها أعداؤه دفع المرض إلى اليأس؛ يزين للمريض الخلاص فيه، وهو منبت التعاسة الإنسانية، يمنيه بالراحة في الإقبال عليه، وإنما حصاده الغصة الأبدية- إلى حيث كونه نظاما اجتماعيا متكاملا؛ يمنح أفراد المجتمع فرصا متكافئة في الحياة، ويوازن بين الثراء الفاحش، والغنى الميسور، الذي لا يجعل أرواح الناس سلما ترتقي عليه طبقة بدون أخرى، أو فئة بدون غيرها؛ بل يصغي لأنات الضعيف، وينتبه لعثرات الفقير، ولا يغفل عن مكانته بين الأمم؛ فيحيا على فائض القزامة، ويتقمم من صناديق المهانة.

والفارغون ما أكثرهم؛ في كل عصر منتشرون، على الضيم والذل يعيشون، هم حطب كل ظلم مضروب، ومسوِّغ كل حق مسلوب، والسواد منهم لا يهمه من أحوال أمته إلا ما يختصه به الزمان، أو يحمله عليه المكان؛ فنفسه لا غيرها يُشغِل، وبطنه دونها الكل يُشعَل؛ فلئن ساء مخلوقا من الحيوان أن يذرف مخلوق من أصله الدموع، فلا يسوء هذا الفارغ أن يبطن وغيره يجوع، فلن يضره أن يعيش على غير مناهج هذا الدين وتشريعاته؛ بل قد يسره. في غير الإسلام لا ضير أن يطحن الفقر طبقة، ويسمن الثراء طبقة، ولا مشكلة إن باتت فئة متبطنة تحيا على السرف والترف، وتركت الأخرى تموت وهي تطلب الكفاف والشظف.

ومن ذلك لا غرو أن يكون في المجتمع، الذي يُظهر الإسلام، ويُحكِّم غيره صور من القسوة الشيطانية التي تخلو من ذرة إيمان، أو مثقال رحمة؛ لأنه بوجود أي منهما تحصل الخشية، ويتم الامتناع، ولكن كلا ثم كلا؛ إذ تنمو في المجتمع بذرة مصفوفة الشقاء والاستعباد، التي تعمل في طبقة من فوق طبقة، وإنما تحدث أكثر صورها على سبيل الشعور والتصوير في الطبقة العليا، التي لا يزيدها انتشار الفراغ إلا ثروة وطغيانا، فإذا تم الانتقال باتت الصور في حكم المجسد، والمحسوس، فيضرب الألم الأبدان، وتستقر المهانة في الأذهان، فلا تملك الطبقة الفقيرة من أمرها إلى أن تركن مستسلمة لهذا الطريق، الذي من صوره أن ترتحل الأسرة من الريف إلى المدينة، فيعمل الوالد وأسرته في حراسة العقارات السكنية، فلا يلبث أن يلتهمه وحش المدينة ونفقاتها الكثيرة.

فيوكل هم العقار والعناية به إلى زوجته وأبنائه -مهما كانوا صغارا- ويسعى في طلب الرزق من مكان إضافي، وليت شعري هل ليتعلم أبناؤهم تعليما جيدا، أم ليتمكنوا من عيادة أنفسهم إذا ما نزل بهم المرض، أم ليخصوا أنفسهم مرة في الأسبوع مثلا بفسحة خارج البيت؟ بل ليستطيعوا استكمال هذا الدور الذي اختصهم به الأثرياء، بدون أن تمس يد الحاجة كرامتهم فتنفق منها، أو ترتهنها عند من لا يقدرها، ومن ثم يتقاطع الفارغون مع أبناء هذه الأسرة المحكوم عليها بالشقاء في هذه البنايات، فلا يتورع الواحد منهم عن إيعاز كل أعمالهم اليومية الطبيعية، التي هي جزء من حياة الإنسان ونظامه إلى طفلة صغيرة لم تتم عامها السابع بعد.

ويزيد من تأكيد حقيقة بأن وجوههم لا تعمل فيها المنديات، وقلوبهم لا تتنزل عليها الرحمات، فيحكمون على هذه الطفلة بتنفيذ حاجاتهم في ليل الشتاء القارص، الذي ترتعد منه الأجسام الكبيرة، وتتوجل منه الملابس الثقيلة، فتحمل على كتفها الصغير الغض ما يئن به الشاب إن عاوده 5 مرات في اليوم، حكما لا طلبا؛ لأنه مهما كانت صورة الثناء التي سيتفضلون بها عليها، فلا تزن درهما في ميزان الطفولة، التي يجب أن يقضيها الطفل بين الأشجار والألعاب، لا بين البقالة والأسواق، ثم تزداد الصورة ظُلمة فتمطر السماء على هذه الطفلة، ويتعطل بها المصعد في إحدى مراتها المتكررة، التي تصعد فيها لتنفيذ أمر أحد الفارغين، فتصرخ الطفلة طويلا، وتذرف الدمع غزيرا، ولا يسمعها أحد، حتى يطلع من لسانها "يا ناس ارحموني"، آهٍ من نفسي، ونفس كل حي على هذه الأرض تشخص له هذه الصورة، ولا ينفطر قلبه.

كيف صرخت بهذه الجملة، وخصت هذه اللفظة -الرحمة- وحدها، وهي التي لم تذُق منها مقدار شربة شتوية في يوم مطير، فلا بد للإسلام أن يحكم؛ ليحقق معناه، ولن يتم ذلك إلا إذا خرجنا من جانب المظاهر المتكلفة إلى البواطن المُصرِفة، التي تحقق للمجتمع المعنى الكامل للعدالة الاجتماعية في الصورة الكافية، التي تطعم هذه الفتاة وكل من مثلها الرحمة؛ فالمعنى في فم الطفل أظهر من عقله، حتى يتم لها من معاني الحياة ما يكفيها عن نعمة الفارغين المغموسة بالذل والمهانة، وفي الإسلام وحده كفاية الإنسان عنهما، لا في الشيوعية التي تقف عند الطعام الشراب، ولا الاشتراكية التي تميت الروح وتغتال التجديد، فضلا عن الرأسمالية التي تطحن الفقير، وتدكه دكا؛ لأنه عقيدة إيجابية تجمع كل الأهداف الإنسانية المشروعة، ويزيد فيصبغها بالتكامل والتناسق والاعتدال.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.