إن الحديث عن دور دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية ومساهمتهما في أنظمة العالم الرقمي يعد مسألة مهمة في هذا العصر، خاصة في ظل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، التي عرفناها، وما زلنا نعيش تطوراتها. وقبل أن نتطرق لهذا الموضوع، لا بأس بأن نقدم تعريفا موجزا للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
بالرغم من صعوبة إيجاد تعريف شامل وموحد للعلوم الإنسانية والاجتماعية، نظرا لاتساع مجالاتهما وتداخل اختصاصاتهما، واختلاف طرق تناول المتخصصين للمواضيع والظواهر التي تنتمي إلى حقلهما؛ إلا أننا سنحاول من خلال المعطيات المتوفرة، تقديم تعريف مبسط لهذه العلوم.
فالعلوم الاجتماعية؛ هي تلك العلوم التي تقوم بدراسة الظواهر الاجتماعية للإنسان، وتشمل هذه الدراسة الماضي والحاضر والمستقبل، وتكون على كافة المستويات، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي أو المستوى المجتمعي.
أما العلوم الإنسانية؛ فهي تميل أكثر إلى دراسة الماضي الإنساني والاهتمام بنمط التطور البشري، وتتشابه مع العلوم الاجتماعية في كونهما يهتمان بدراسة الإنسان من حيث هو حيوان اجتماعي.
إن البحث العلمي في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، يكتسي طابعا خالصا لما له من أهمية قصوى في كل الميادين، التي تتعلق بحياة الإنسان، ولا شك أن ما وصلت إليه الإنسانية حاليا، مرتبط أشد الارتباط بالدور الذي تؤديه دراسة هذه العلوم، ولا يمكن عزلها عن بعضها البعض لكونها تتداخل في شتى المجالات.
ولعل هذا الدور قد تزايد في عصرنا الراهن نتيجة التنافس الحضاري، الذي بدأ يلوح في الأفق بعد انهيار المعسكر الشيوعي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، بحيث حاولت استثمار انتصارها العسكري والسياسي لنشر ثقافتها عبر ما يسمى بالعولمة.
وقد حاولت من خلال مشروعها هذا قولبة الثقافات والحضارات على مقاسها، بحيث تجعل من الثقافة الغربية الرأسمالية وخاصة الأميركية هي المهيمنة على العالم، وهذا ما يطلق عليه البعض بفكر الأمركة، وهو الاتجاه الجديد الذي استهدف إقبار كل فكر مغاير، ولا شك أن المثقفين في ظل هذا الاتجاه الجديد قد حملوا همَّ الدفاع عن قناعاتهم ومبادئهم الخاصة، وأبرزهم أولئك المتخصصون في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذين يولون اهتماما كبيرا بمثل هذه القضايا؛ مما خلق نوعا من التنافس البناء في إعادة إنتاج الأفكار.
لقد خلق هذا الدفاع والأخذ والرد زخما معرفيا نتج عنه طفرة نوعية استفادت منها كل العلوم، بما فيها العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي تعتبر إنتاجاتها بمثابة هوية لكل مجتمع أو حضارة، فهي التي تترجم حجم الحركية المعرفية، التي وصلت إليها مجموعة بشرية معينة، غير أنه بمجيء الإنترنت والعالم الرقمي انقلبت نظرة المفكرين إلى التاريخ والجغرافيا، ومن ثم انقلبت نظرة الإنسان إلى مختلف ظواهر الاجتماع الإنساني بأكملها، وأصبحت المعلومات تنتقل بصورة أكثر انسيابية.
فبعد الثورة التقنية والرقمية، التي عرفها العالم، لم تتراجع العلوم الإنسانية والاجتماعية في أداء دورها؛ بل إنها تمكنت من توسيع دائرة قرائها ومتصفحي مقالاتها، حيث إنه سرعان ما اجتاحت عالم الإنترنت مجموعة من الكتابات والمقالات والمؤلفات، التي غالبا يتم تقديمها مجانا، ويتم الوصول إليها بشكل سهل وسريع، فانخرطت بذلك في إغناء هذا العالم الرقمي، وصارت المعلومات تتدفق فيه بشكل رهيب عبر أوعية ومسارات جديدة.
في الوقت نفسه، أصبح تدفق المعلومات عنصرا مهما في تسريع حركة العولمة، حيث تساهم تكنولوجيا المعلومات في تطوير التنمية بمختلف مستوياتها، ولعل أهم ما تمكنت هذه الحركة الفكرية من تنميته هو التنمية الثقافية، التي أعطت مفهوما جديدا لمدى الوعي بمفهوم الجماعة البشرية ذات التاريخ المشترك والثقافة الموحدة، وهذا من حسنات تراكم كم هائل من المعلومات، التي استفادت من الطفرة التقنية التي انتقلت لما يسمى بالثورة المعلوماتية.
ويحتل النظام المعلوماتي أهمية خاصة في هذا الموضوع؛ لكونه يعد المحرك الأساسي لتطور المجتمع، وذلك عبر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إذ مع تزايد الأحداث الإنسانية، وكثرة الظواهر الاجتماعية، شهد العالم انفجارا معلوماتيا، كان تأثيره واضحا على كافة المستويات الفكرية والعلمية والتكنولوجية كذلك، وأصبحت المعلومات من بين البضائع التي تقترب إلى حد كبير من مجال السيادة السياسية والثقافية والصناعية للمجتمع، كما أنها صارت تساير الأنظمة الإلكترونية الحديثة المستخدمة في بثها وتوزيعها عن طريق الحواسيب والتلفاز والمجلات والمواقع الإلكترونية.
وتتصل بهذه القضية فكرة أخرى، وهي أن العلوم الاجتماعية والإنسانية في دراستها لظاهرة اجتماعية أو إنسانية، نجدها تستعين بمواقع إلكترونية اهتمت بموضوعها، وتربط اتصالات مع فئات اجتماعية عن طريق الهواتف والبرامج؛ لكونها تسهّل من تبادل المعلومات ونقل الأخبار التي من شأنها أن تساعدها في بث تلك الظاهرة، والملاحظ أن هذه العملية تساهم في تزكية وإغناء العالم الرقمي.
إلى جانب ذلك، نجد الكثير من الدراسات السوسيولوجية أصبحت تجرى على الإنترنت، وعاد التعاون بين الباحثين الاجتماعيين يتم عن بعد من خلال تبادل نتائج الدراسات المقارنة بينهم، وكل هذه النتائج تجرى أوتوماتيكيا عبر شبكات الحاسوب وخصوصا شبكة الويب العالمية، على هذا الأساس بدأت اهتمامات علماء الاجتماع والباحثين بعالم الإنترنت، وباستخدام مختلف تقنياته الاتصالية المتنوعة، إضافة إلى وسائل جمع البيانات والمعلومات الرقمية وغيرها.
وبناء على ذلك، تأسست اهتمامات العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمنتجات المعلوماتية، وأصبحنا نرى في هذا العصر إمكانيات غير محدودة في تخزين البيانات الرقمية وتحليلها، على اعتبار أن تلك البيانات تولد وتنتج في المجتمع. في هذا الإطار، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية المختصة بتكنولوجيا المعلومات تركز أساسا على العمليات الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا، وذلك للرفع من مستوى الفهم والإبداع الإنساني في المجالات العلمية والتكنولوجية، وأيضا في اكتشاف فرصها الجديدة، وهذه الدينامية من شأنها أن تساهم في إغناء الأنظمة الرقمية.
وخلاصة القول، إن العلوم الإنسانية والاجتماعية قد أدت دورا مهما في إغناء العالم الرقمي زمن العولمة من خلال إذكاء روح المنافسة بين جميع مكونات الجماعات البشرية، وهذا الدور سيزداد بطبيعة الحال في زمن كورونا وبعده، بحيث أصبح الاعتماد على الوسائل الرقمية وشبكات التواصل عبر الإنترنت أمرا متداولا في القيام بالأبحاث الاجتماعية والإنسانية، وهو ما يعكس المساهمة الكبيرة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في العالم الرقمي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.