شعار قسم مدونات

كيف ستواجه المنظّم بغير المنظّم؟

 

كثرة وتتابع الإخفاقات، وتضخم الإحساس بالإحباط، والشعور باللاجدوى، ومرارة طعم الهزيمة، وألم العجز، عوامل وأسباب تدفع طيفا أو أطيافا من الناس إلى ما يرونه ابتكارا سينقذ السفينة من غرق محتوم، أو هو دواء لكل داء.

ومن ذلك الدعوات إلى التخلي عن التنظيمات، وأقصد بها هنا أي تشكيلات لها عمل منظم، مثل الحركات والأحزاب، التي تعمل ضمن إطار له هيئاته ولوائحه وقيادته وطبقاتها، والركون بدل ذلك إلى العمل الفردي، أو ما يرونه نشاطا مستقلا.

مع تفهمنا لدوافع هذه الدعوة أو الفكرة المذكورة في صدر المقال، إضافة للرغبة في التجديد، والخروج عن نمطية صبغت العمل والنشاط المنظّم، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا "كيف يمكن مواجهة قوى ومؤسسات منظمة قلبا وقالبا، ولها هياكل تنظيمية مرعبة، بجهد فردي عفوي؟ فإذا كانت التنظيمات قد فشلت وعجزت، حتى الآن، عن تحقيق اختراق أو إنجاز يتناسب مع التضحيات والحقبة الزمنية للعمل، فكيف سيكون حال من ليس منظّما؟ أم أن دعاة هذه الأفكار لديهم ترف التجربة كي يعيدوا إنتاج اليأس؟".

طبعا هناك ظنون بأن نوايا وارتباطات بعض أصحاب دعوات (اللاتنظيمات) ليست بريئة؛ لكن بعيدا عن ذلك دعونا نتناول في السطور التالية نموذجا حيّا قريبا، لعله يقيم الحجة على القوم.

 

محمد علي وكسر حاجز الخوف

حين ظهر الفنان والمقاول المصري (محمد علي) عبر مواقع التواصل في فيديوهات تحدث فيها عن فساد المؤسسة العسكرية في مصر، وفضح قيام السيسي ببناء قصور رئاسية فخمة، في ظل الفقر والمعاناة اللذين ينهشان عموم المصريين، لفت الرجل نظر جميع المتابعين لا للشأن المصري فقط؛ بل للباحثين والمهتمين بقضايا التغيير والعمل السياسي، وقد توّجت هذه الظاهرة غير المسبوقة بنجاح دعوات للتظاهر في سبتمبر/أيلول 2019 في عدة محافظات مصرية، في مشهد كان الأول من نوعه منذ سنوات، خاصة أن المتظاهرين هذه المرة طالبوا علنا بسقوط السيسي ونظامه، لا بتحسين ظروف الحياة والمعيشة فقط.
نعم، لقد نجح فنان ليس من نجوم الفن البارزين، ومقاول كان ينفذ أعمالا لصالح الجيش، وغير معروف بوجود نشاط سياسي له، بدفع مجموعات لا يستهان بها من المواطنين، إلى رفع صوتهم، وكسر حاجز الخوف، وهزّ ثقة النظام البوليسي بنفسه، وهو الذي استنفر كل أدواته الأمنية والإعلامية لتثبيط الدعوة إلى التظاهر، في وقت لاقت فيه الوسوم (الهاشتاغات)، التي كان محمد علي يطلقها عبر فيسبوك وتويتر وغيرهما انتشارا وصدارة، وكأن الرجل الذي يظهر في فيديوهات يبثها بجهاز هاتفه النقال من برشلونة بأبسط التقنيات، وبدون مراعاة لعوامل الإضاءة أو استخدام مؤثرات، هو مؤسسة أو دولة بحد ذاته.

 

هل هو طفرة سياسية؟ 

كعادة النظام وأدواته في طرق التعاطي مع كل صوت معارض؛ فقد صنّفه إعلام السلطة على أنه (إخوان) أو مدفوع منهم.
وواصل أسلوبه المعتاد بابتزاز ذوي المعارضين، فأحضر أباه إلى فضائية تابعة للنظام؛ ليتبرأ مما يقوله ابنه، وقام بتنظيم مظاهرات مفتعلة وممولة لتأييد السيسي، وإجراء آخر متوقع هو رفع قضية على محمد علي؛ لكن هذه المرة لم تكن بتهمة العضوية في جماعة محظورة؛ بل بتهمة (الخيانة العظمى).

هذا عن النظام، أما عن المعارضين له، فمنهم من لا يفارقه الشك والتوجس من كل ظاهرة جديدة، فألمحوا أو صرحوا أن محمد علي قد يكون مدفوعا من النظام (أو أحد أجنحته المتنافسة) لاحتواء المعارضة وتوجيهها، وتفريغ الكبت الكامن في الجمهور بطريقة تكون تحت السيطرة والتحكم، أو تحقيق مكاسب سياسية لجهة أو شخصية في المجلس العسكري، مستندين في ذلك إلى عدم تصديق قدرة الرجل على مغادرة مصر إلى إسبانيا بهذه السهولة، وأن من يعمل في مجال مقاولات الجيش أو أي شيء يخصه يكون تحت المراقبة الشديدة، ولو أحسوا بوجود ذرة من عدم الولاء عنده لتصرفوا معه، وفي أحسن الأحوال، فإن محمد علي تحوّل إلى معارض؛ بسبب استحقاقات مالية يطالب بها الجيش أساسا، وليس لقناعة راسخة بفساد النظام وظلمه.

وجهات أخرى في المعارضة -أغلبية ظاهرة منها- فضّلت استغلال ظاهرة محمد علي وتسييرها لصالحها، بغض النظر عن بعض الأسئلة المنطقية، فشاركت في نشر الوسوم وفتحت له المجال عبر ما تمتلك من وسائل إعلام، ودبّج معارضون مقالات ترحب بالظاهرة الجديدة.

آخرون وجدوا في محمد علي فرصة وذريعة لمهاجمة التنظيمات والأحزاب السياسية التقليدية، ويضاف لها من عرفوا باسم (شباب الثورة)؛ نظرا لأن حال هؤلاء ليس على ما يرام؛ فمنذ مذبحة ميداني رابعة والنهضة صيف 2013 لم ينجح أهم حزب معارض، والذي كان منه أول رئيس جمهورية مدني انتخب بطريقة ديمقراطية لأول مرة، وهو جماعة الإخوان المسلمين ومن لف لفيفها، في القيام بأي نشاط مؤثر يهزّ ويربك النظام، سوى وقفات هنا وهناك، ومعارضته للانقلاب العسكري كانت عبر الإعلام من فضائيات ومواقع تواصل، أما (شباب الثورة) فقد فوجئنا بما آل إليه حال (وائل غنيم) مثلا، والبقية إما اعتزلوا أو يقبعون في السجون أو يندبون حظهم، ويشتمون الإخوان بتحميلهم مسؤولية كل ما جرى.

والآن هذا محمد علي ليس عضوا في أي تنظيم أو تجمع استطاع القيام بما يمكن أن نسميه ثورة جديدة، وللرجل مزايا وصفات تختلف عن كل النشطاء السابقين من تلقائية في الكلام، وتصرفات تبدو خالية من أي كلفة، فهو يظهر وهو يدخن سيجارته، ويشير إلى أنه قبل البث كان يستحم لذا تظهر حمرة في عينيه، ردّا على ما روجته أبواق النظام من شربه للخمور؛ بل يهاجمهم ويقول ألا علاقة لكم بي إذا شربت أم لا، فهو -كما قالوا- يشبه عامة المصريين وسوادهم الأعظم، بعيدا عن المجتمعات النخبوية السياسية بكافة تلاوينها.

البعد عن الدبلوماسية التي كانت، وما زالت، سمة السياسيين المعارضين، خاصة انتقاء الألفاظ والأوصاف، فمحمد علي سخر بكلمات وألفاظ بالمصرية الدارجة من شخص السيسي ومؤيديه، بطريقة لاقت استحسانا وإعجابا.

واضح أن محمد علي خال من أي خلفية أيديولوجية؛ بل تبدو معرفته وثقافته السياسية بسيطة جدا، مما يعني أنه يمثل حالة وطبيعة كثير من الجماهير.

كل هذا شجع دعاة (اللاتنظيم) إلى التبشير بمرحلة جديدة وطريقة غير مسبوقة في الحراك، مع التذكير بأنهم سبق وأن بشروا بها عند الحديث عن نشطاء شباب شاركوا في ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وحاولوا بكل طريقة القول إن هؤلاء هم البديل الأنسب للأحزاب والحركات والجماعات والنظام القائم، متذرعين بأنهم متعلمون، وكأن قادة الأحزاب جهلة، وليسوا أساتذة جامعات وأطباء، وأنهم عصريون يتقنون استخدام التقنيات الحديثة، وكأن كوادر الأحزاب والحركات يعيشون في الكهوف أو الغابات حياة بدائية، وأنهم لا يحملون أيديولوجية، وكأن الأيديولوجية شيء معيب، وعار ينبغي غسله.

على كلٍ بشّر هؤلاء بظاهرة محمد علي، وأنها هي التي ستنهي النظام العسكري، وتذيب الأيديولوجيات وتعلن فعليا انتهاء عصر التنظيمات.

 

الإحباط وحقيقة الحاجة إلى تنظيمات 

ولكن (الجمعة المشمشية) سرعان ما انقضت، وذلك حين لم يكن هناك تجاوب مع دعوات محمد علي للتظاهر في 25 يناير/كانون الثاني 2020، وهو ما سبب له شعورا بالفشل، وأعلن اعتزاله، وبالطبع خرجت أبواق النظام متشفية بلؤم بعدم خروج مظاهرات، وحركات وأحزاب المعارضة التي تساوقت مع دعوات التظاهر، ولو من زاوية نشرها والتحريض الإعلامي عليها، أصيبت بخيبة أمل.

هذا الاستعراض لظاهرة محمد علي نستخلص منه، ضرورة العمل المدروس والمنظم، وإذا ظهرت حالة غير منظمة، فهي شاذة، وستضطر إلى إيجاد صيغة تنظيمية (محمد علي كان يطرح سيناريوهات ومبادرات معظمها تشبه أفكارا سابقة) وإلا ستنتهي وتندثر، حتى لو لاقت وهجا وتحمسا لها عند بعض أو كثير من الناس.

المشكلة ليست في التنظيم بحد ذاته؛ بل في أدواته وطريقة عمله وشكله (عنقودي أو هرمي) وهيكله وقياداته. وأكرر الفكرة التي أوردتها سابقا لن تتمكن قوى غير منظمة من مواجهة كتلة منظمة، يشرف على تنظيمها ويمولها دهاقنة المخابرات الدولية ذوي الخبرة في الإجرام.

وجدير بالذكر أن أي شخص غير منظّم يمتلك مزايا أو كاريزما أو شجاعة، يكون الفضل أو الدور الأبرز لانتشاره والتعريف به، للقوى المنظمة الضليعة وصاحبة الخبرة في العمل، ومحمد علي وغيره أمثلة وشواهد. عموما قد أتحدث إذا اقتضى الأمر أكثر عن (بدعة) ترك العمل المنظم مرة أخرى، بمشيئة الله.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.