بداية ليرحم الله الإعلامي الواعي بقضايا المجتمع والمشتغل عليها ببراعة د. عبد المطلب الفحل، الذي كان برنامجه "دكان ود البصير"، برنامجا دراميا اجتماعيا هادفا، عدا قضايا أخرى، وعبد المطلب الفحل ككثير من الإعلاميين والمثقفين السودانيين عبر من الريف للمدينة، ونجح في الاحتفاظ بقيم الريف في وسط المدينة قادما من قرية الزومة بشمال السودان لقلب الخرطوم.
ولعل هذا المدخل هو الأنسب للحديث عن العلاقة بين الريف والمدينة في السودان، فبساطة السوداني وروحه المرحة، وتوكله الشديد على الله، وكثير من قيمه الخلقية هي قيم الريف، أما ملبسه وأساليب العمل والكتابة فكلها مدنية، فالسوداني ريفي الطباع والتفكير مدني التعاملات واللباقة.
ولكن مناهج التفكير في السياسة والاقتصاد والإدارة تواجه منذ نشأة الدولة السودانية ترييفا غير محسوس، فأن تبقى الأحزاب السياسية بغير انتخابات داخلية، أو أن تتعطل إدارة حيوية للذهاب لعزاء أحد الموظفين، وذهاب الموظفين جميعا لقرية هذا الموظف لتعزيته، هذا كله يعني أن قيم الريف تغولت على قيم المدينة.
فاحتفاظ السوداني كفرد أو كأسرة بقيم القبيلة والريف في سلوكه هذا أمر جيد، أما أن يتجاوز ذلك للسلوك الوظيفي أو السياسي، فهذا خلل سيفضي لمعضلة حقيقية مستقبلا، وينبغي الالتفات إلى أن قيم الريف والمدينة تتفاوت في عدة قضايا، ينبغي الالتفات لها.
ففي الريف، لا قيمة للوقت تقريبا، والمعيار الأساسي الانتماء الأسري أو الطبقة المهنية، وفي المقابل، ففي المدينة الاعتماد على الذات والمهارات، والتقسيم الطبقي يعتمد على الوظيفة والمدخول منها، والسلوك العام المرتبط بمعايير بعضها اكتسب من ثقافات وافدة تلاقحت مع المحلي.
وإذا كان في الريف الكرم والسخاء والبساطة واللجوء للمنطق الفطري البسيط، فإن في المدينة الانضباط والتراتبية، واحترام الخصوصية، والتدبير والادخار، على أن الإدارة السودانية أيضا واجهت مشكلة سخيفة، وهي غياب العمل الميداني عن الإدارة للريف، وقضاياه، وحل الإدارة الأهلية التي كانت كفيلة بحلحلة القضايا في المجتمعات القبلية، في بلد ذي مساحات واسعة، وشريحة كبيرة من السكان المتنقلين.
وانعكس ذلك كله ترييفا لمظهر المدينة السودانية، وكثير من مناحي السلوك، وفي المقابل، شهدت المدينة ذاتها مظاهر وافدة كثيرة، فيها تخل عن تراث السوداني أو استعادة مشوهة له، وترييف المدينة خلل تنموي واجتماعي، دفع ساكن الريف للنزول للمدينة، والمظاهر الوافدة انعكاس لهزيمة نفسية، أما الاستعادة الشائهة فتعويض نفسي عن هزائم واقعية أخرى.
والمعالجة لهذا تبدأ من ضبط المعادلة الإعلامية بإبراز قيم الريف، وتشذيبها بقيم المدينة، فلا يتحول الكرم لإسراف وسوء تدبير، بل يصحبه ادخار وحسن تقدير، وتكريس الروح المؤسسية في المؤسسات بصفة عامة، واحترام الوقت، وتعزيز أخلاقيات العمل، وفي الوقت ذاته استعادة الإدارة الأهلية لدورها في المجتمعات الريفية والقروية البعيدة، مما سينعكس توفيرا في المصاريف وترشيدا للإنفاق الإداري، وتعزيزا لإمكانيات التطوير التدريجي للمجتمعات الريفية.
وفي المقابل، فإن المجتمعات الريفية بحاجة للتخلص من بعض المسائل التي تعيق التنمية، فلك أن تتخيل أن قطعانا كبيرة من الثروة الحيوانية لا يستفاد من ألبانها لأن بيع الحليب لدى تلك القبيلة عار وشنار، أو تخيل كذلك أن فكرة صناعة الأجبان وبيعها، لم ترد في بال أبناء قبيلة أخرى، فلديهم ما يكفيهم.. فلماذا يبيعون؟
إن التغيير القيمي، والسلوكي، الذي تصاحبه مكاسب واقعية، مع خطط متدرجة غير مصادمة للواقع القائم، واستصحاب القيم البناءة والإيجابية، وتطوير الممارسات الحاملة لها في المجتمع هو الكفيل بحلحلة هذه الإشكاليات، وتحقيق التطوير المنشود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.