شعار قسم مدونات

نبضات العام الجديد..

شاهد.. الاحتفالات الأولى في العالم بالعام الجديد
لو كانت الحياة كلها مجرد مسرحية فهي لن تُقام في غياب شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية وجمهور يصفق تارة ويبكي تارة أخرى (الجزيرة)

لم تبق سوى أيام معدودات تفصلنا عن بزوغ نجم عام جديد، لعله يكون سعيدا، ومفعما بالأمل والبهجة. وفي خضم استعدادات العالم لتنظيم الحفلات وتقديم الهدايا، وتجهيز المفاجآت أطل علينا متحور جديد لفيروس كورونا أجبر بعض الدول على العودة لحجر صحي جزئي، أو على الأقل إلغاء احتفالات ليلة رأس السنة.

وبعيدا عن عالم الفيروسات التي طال الحديث عنها حتى لم نعد نميز بين الطبية منها والبشرية، وبعيدا عن النقاشات الأيديولوجية التي تعزو كل هاته الحرب لحسابات سياسية صِرفة؛ أو منافسات دولية لا ندري هل سينتصر فيها القوي على الضعيف أم العكس؟!

لا بد من الإقرار بأن البشر جميعهم خُلقوا ضعفاء مهما زعموا من قوة وتقلدوا من مناصب وتمكنوا في الأرض طولا وعرضا.. لقد عاشوا في الوهم وسقطوا بعد ذلك في بئر الحقيقة الحالك الذي يضع حدا لكل محاولة أخرى لاستئناف الحياة ولو بأشواط إضافية.

سيهل علينا إذن عام جديد، لأن النظام الإلهي بالكون يحتم ذلك، ولأن الوقت الذي تأخذه الأرض لإكمال دورة كاملة حول الشمس قد آن أوانه. هو إذن اكتمال لمنظومة فلكية لا تقبل الخطأ أو التأجيل، ونقصان من عمر بشر يظلون غير قادرين على استباق الزمن ولو بثانية واحدة لتفادي حادث مميت؛ أو تأخيره قليلا قصد الاستمتاع بلحظات دفء قد لا تعود.

وبالرغم من هذا وذاك يفرح العالم في آخر ليلة من السنة بلحظات يحسبها تاريخية، فترى من يسافر، ومن يرقص، ومن يسكر، ومن يغني بأعلى صوته، ومن يستمتع بمنظر المفرقعات البهيجة في السماء، ونجد كذلك من يدير ظهره لكل هذا الصخب باعتباره حماقة أو بدعة أو تطبيلا للعبة زمن غادِر ومغادر!

ومهما اختلفت ردود الأفعال يبقى في قلب كل عاقل منا خوف وتوجس مما قد يأتي به القادم من الأيام، فما العام الجديد سوى احتضان محتوم للمجهول، وخوف من الألم والفقدان وتغير الأحوال إلى الأسوأ.

الثَّمِل اختار أن يتناسى الواقع وينعم -ولو لهنيهات- بفرح صغير، والمتغاضي فكّر كثيرا حتى قرر الاعتزال وقد يكون ذاك الذي يرقص حاملا من الهموم ما لا تقدر عليه مجرد دموع أو آهات.. وتراه مع ذلك يتمايل مع أنغام موسيقية مثلما يتمايل الموج قبل أن ينكسر على ضفاف بحر هائج يضمه إليه ويجتره للعدم تاركا وراءه زبدا رغويا بفقاعات هشة.

فالأمر إذن فلسفي وجودي مخيف، لأن موضوع العام الجديد يحمل بين طياته مفاهيم عميقة: كمفهوم الزمن والحقيقة والوضع البشري والوجود والعدم.

فحياة البشر على سطح الأرض في زمن معين هي حقيقة خالدة لا مناص منها، أما وجوده أو عدمه فهو محاولة فاشلة لإدراك ماهية الحياة، فنحن نوجد فعلا إلا أننا نكاد ننعدم أمام قوى أخرى قاهرة.

وننعدم بعد الموت انعداما جسديا لا روحيا، والعجيب أنه لا أحد يدرك الموت حتى يواجهه وحده، ولا أحد بإمكانه سرد تلك التجربة البرزخية لأننا نعيشها بين مطرقة الوجود الروحي وسندان العدم الجسماني.

وبالتالي فمهما اختلفت سيناريوهاتنا لاستقبال هذا العام، وسواء أتفاءلنا به أم تشاءمنا منه، نبقى مجرد دمى ستلعب بها الأيام كيف شاءت، وستحركها الريح تارة إلى جزيرة الأحلام، وتارة إلى كابوس الحقيقة المرة.

فالقادم آت مهما غيرنا الطريق، واتخذنا من تدابير واحتياطات، ومكرنا فوق المكر، وتوارينا عن العالم والأعين، فالحياة كما قيل: "حلم يوقظنا منه الموت" ووجع لن نبرأ منه إلا إذا قررنا المواجهة ولو بسلاح مبتور الزناد.

نعم.. فمن حقنا الاحتفال بعام جديد ينضاف لعمرنا، ولا ضير في أن نتخلص -ولو لحظيا- من كومة القلق التي تملكت أحشاءنا لأن "من يعش في خوف فلن يكون حرا أبدا".

صحيح أننا مجرد دمى لا نملك من أمرنا شيئا بيد أن الحياة لن تزدهر من دوننا أيضا، فنحن من نُعمّر الأرض، ونزرع البذور في أحشائها، ونفرح لنزول الغيث ونخشى وميض البرق ودوي الرعد.. ونحن من نعطي معنى للأيام، ونخيط تفاصيل ذكريات مؤلمة وأخرى مبهجة على ثوب الزمان الذي تختلط فيه الألوان بين الأبيض والأسود، وتمتزج فيه الرسومات بين وجوه واجمة وأخرى مستبشرة بغد أفضل.

ومَن في غيابنا سيتأمل في ضوء القمر أو فستان الشمس الأصفر الفاقع؟ ومن سيصبو لاختراعات جديدة وآفاق تُجاوز الخيال؟ من سيستطعم ثمار الأشجار ويرتوي بمياه الأمطار؟ ومن سيسعى لتبليغ رسالات الحياة وتوريثها عبر الأجيال والحضارات؟!

والواقع أنه حتى لو كانت الحياة كلها مجرد مسرحية فهي لن تُقام في غياب شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية وجمهور يصفق تارة ويبكي تارة وقد ينصرف ليعود من جديد من أجل لحظة تسامح أو تصالح.

فبعيدا عن كل هاته التوقعات ورغم إيماننا العميق بهشاشة وجودنا وقابلية أحلامنا للاندثار في أي لحظة كسوف مفاجئة.. وبالرغم من انعدام رؤية للواقع والمستقبل ليس لنا من خيار سوى الصمود في وجه تقلبات الحياة ومطباتها وأسقامها؛ وما من سبيل لتحقيق هذه المعادلة سوى التشبث بالإيمان وتقبل الأقدار واليقين بأن العسر واليسر وجهان لحياة واحدة تمتزج فيها حلاوة العيش بمرارة العجز.

وفي انتظار إسدال الستار الأكبر دعونا نعش ونرتق.. دعونا نستشعر الحب والسلم والأمان.. اهدونا بدل النفاق ورودا.. وبدل الخبث ابتسامة. وبدل الخداع ضمة وقت الضيق.. اتركونا نحتفل بعام جديد سنكون نحن جزءا من تاريخه وحضارته.. أعينونا على تثبيت خطواتنا على سلم النجاح لنتخرج من مرحلة الحياة لمرحلة الموت بشهادة فخرية ستخلد لجهاد بشري دنيوي، ولسعي متواصل للنجاح والكفاح والتلذذ بقوة اللحظة، وانتظار النهايات السعيدة حتى لو تأخر موعدها.

فقد يكفي نور القمر لاستكمال طريق وعر، وقد يكفي غزو الإنسان لنفسه لضمان توازن نفسي كفيل بجعله قادرا على التمعن بهدوء في وجه حياة عام جديد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.