يُعد نجيب محفوظ علامة فارقة في الأدب العربي، فلذا لابد وأن تكون له مناوشات مع أهل السياسة. ولكن رأيَ محفوظ كان غيرَ واضح في كثير من الأحايين، حتى أن هناك بعض الناس الذين ظنوا أنه -وحاشاه من ذلك- يوالي السلطة على حساب مبادئه، وبالطبع انهالت عليه الاتهامات. ونسيّ هؤلاء أن محفوظ قبل أن يكون كاتبًا فهو فيلسوف؛ تخرج في كلية الآداب وحصل على شهادة الماجستير في فلسفة الجمال، والفيلسوف يختلف عن العوام في حُكمه ورؤيته لطبيعة الأمور.
ولنفهم مواقف محفوظ (كما قال هو عن نفسه) لابد وأن نطّلع على أدبياته، ومن أشهر كتاباته التي أفصح فيها عن آرائه رواية "أمام العرش: حوار بين الحُكام". تتناول الرواية محكمة رمزية يترأسها الإله "أوزوريس"، وعن يمينه زوجته وأخته الإلهة "إيزيس"، وعن يساره ابنهما البطل الإله "حورس"، وأسفل السُلم الذي تعتليه عروشُهم "تحوت" كاتب الأعمال وقارئ تاريخ كل ملك حين يأتي في كفنه أمام المحكمة الثلاثية تلك؛ من أول الملك مينا "موحد القُطرين" إلى أنور السادات.
الحُكام الأوائل:
مرت المحكمة الأولى بسرد تاريخي وحوار فلسفي ومناوشات كلامية بين هيئة القُضاة وبين حُكام مصر وفراعنة البلاد، ومنهم من نال كرسيًا في مقام الخالدين، ومنهم من رُمي في الجحيم، ومنهم من عاش بين المرتبتين في مقام التافهين. إلى أن جاءت الصفحات الأخيرة حيث حضر سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر وأنور السادات؛ هنا نلمح آراء محفوظ في كل واحد منهم وهو يتناول إنجازاتهم.
فقد بدا دفاع محفوظ عن زغلول والنحاس دفاعًا مستميتًا، برغم اختلاف المؤرخين حولهما، إلا أنه دافع عنهما وارتقى بهما إلى مصاف الخالدين؛ بجانب الملك مينا ورمسيس الثاني، كأنهما من ملوك مصر الجُدد.
عبد الناصر أمام المحكمة
وحين تقدم عبد الناصر وقرأ عليه تحوت أعماله، حدثت مشاجرة كلامية بين النحاس وزغلول من جانب وبين عبد الناصر من جانب آخر، وفي تلك المشاجرة نستشف رأي محفوظ في عبد الناصر. وإليك بعض ما قيل فيها:
قال زغلول -مُعاتبًا عبد الناصر- أمام الآلهة:
"لقد حاولت أن تمحو اسمي من الوجود كما محوت اسم مصر، وقلت عني إنني اعتليت الموجة الثورية عام 1919، فدعني أُحدثك عن معنى الزعامة؛ الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مُصادفة ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصري هو الذي يُبايعه المصريون على اختلاف أديانهم وإلا لم يكن زعيمًا مصريًا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًا أو إسلاميًا، بيد أنني رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرت تجنيك عليَّ نزوة شباب يُمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدمات جليلة، لقد قامت الثورة العُرابية فناضلت نضالًا كريمًا وأُحبطت إحباطًا أليمًا، وقامت ثورة 1919 فحققت من المآثر ما شهد به التاريخ ولكن تكاثر أعداؤها حتى اجتاحها حريق القاهرة، ثم جاءت ثورتك فتخلصت من الأعداء وأتمت رسالة الثورتين السابقتين، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها وأن تُقيم حُكمًا ديمقراطيًا رشيدًا، ولكن اندفاعك المُضلل في الطريق الاستبدادي هو المسؤول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات".
أهذا رأي زغلول الميت، أم رأي محفوظ الذي شهد ما آل إليه حُكم عبد الناصر ولم يكن يستطيع إشهار قلمه في وجهه وقتها؟ حتى أن عبد الناصر -في الرواية- حاول الدفاع عن نفسه قائلًا "كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية"، ليُقرعه محفوظ على لسان النحاس هذه المرة:
"حجة دكتاتورية واهية طالما سمعناها من أعداء الأمة، كان بين يديك قاعدة وفدية شعبية انهلت عليها بدباباتك، وعجزت عن إقامة بديل عنها فظلت البلاد تعاني الفراغ، ومددت يدك إلى المنبوذين من الأمة فوقعت في تناقض مؤسف بين عمل إصلاحي يعتبر في روحه امتدادًا لروح الوفد وأسلوب حُكم يعتبر امتدادًا لحكم الملك والأقليات، حتى قضى أسلوب الحُكم على جميع النوايا الطيبة".
وهنا كان يقصد ما فعله عبد الناصر؛ مِن حلّ الأحزاب ومُصادرة الأموال وإغلاق المكاتب ومطاردة الزعماء والتنكيل بهم، كما فعل مع "فؤاد سراج الدين" وزير الداخلية في عهد وزارة النحاس، حيث زج به عبد الناصر في غياهب السجن. وحين حاول عبد الناصر الدفاع عن نفسه مجددًا قال:
"الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر.."
ليُقرعه محفوظ مجددًا على لسان النحاس:
"وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أُنكر أنك كنت أمانًا للفقراء ولكنك كنت وبالًا على أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلت عليهم اعتقالات وسجنًا وشنقًا وقتلًا حتى أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم وخربت بناء شخصياتهم، والله وحده يعلم متى يعاد بناؤها، أولئك الذين جعلت منهم ثورة 1919 أهل المبادرة والإبداع في شتى المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قراراتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوى العالمية إلى الهزائم المُخجلة والخسائر الفادحة، ولم تَفِدْ من الرأي الآخر ولم تتعظ بتجربة محمد عليّ، وماذا كانت النتيجة؟ دويّ وجلجلة وأساطير فارغة تقوم على تل من الخرائب".
ما كل هذا التوبيخ؟! لقد حطّ محفوظ على رأس عبد الناصر توبيخًا تصدعُ منه السماء، ولعل محفوظ يقصد في مسألة الاعتقال والشنق صديقه ومكتشفه ومقدمه إلى الناس سيد قطب، والذي اُعتقل وعُذب في عهد عبد الناصر، ولم يستطع محفوظ وقتها الدفاع عنه، ولو بكتابة سطر واحد يطلب فيه الصفح والعفو، لأن كل مَن كانت تسوّل له نفسه بفعلٍ كهذا كان مصيره بجوار قطب وأتباعه!
بل واستمر محفوظ في توبيخ عبد الناصر على لسان النحاس، مُخاطبًا إياه بأنه السبب وراء عدوان 1956 وهزيمة 1967. ولكن بعد ذلك التوبيخ حجز لعبد الناصر -نظرًا لأعماله و"البروباغندا"- كرسيًا بجوار الخالدين.
السادات أمام المحكمة:
رغم الخلاف المُشتعل بين السادات ومعشر الكُتاب كمحفوظ وتوفيق الحكيم ولويس عوض؛ حين وقّعوا على وثيقة رفض لحالة اللا سلم واللا حرب التي كان ينتهجها السادات قبل 1973، فقام الأخير بفصل كل كُتاب جريدة الأهرام -باستثناء الحكيم- واتهم محفوظ بأنه "حَشَاش"([1])، إلا أن الأخير في روايته كان أخف وطأة على السادات مما كان عليه مع عبد الناصر.
ولكن لنشير إلى ذلك الحوار الذي دار بين عبد الناصر والسادات أمام المحكمة المُتخيلة بعد انقلاب الأخير على الأول.
سأله عبد الناصر:
"كيف هان عليك أن تقف من ذكراي ذلك الموقف الغادر؟"
فقال السادات:
"اتخذتُ ذلك الموقف مُضطرًا؛ إذ قامت سياستي في جوهرها على تصحيح الأخطاء التي ورثتها عن عهدك".
– "ولكني عهدتك راضيًا ومشجعًا وصديقًا؟"
-"من الظلم أن يُحاسب إنسان على موقف اتخذه في زمن رعب أسود خاف فيه الأب ابنه والأخُ أخاه!"
-"وما النصر الذي أحرزته إلا ثمرة استعدادي الطويل له!"
فقال السادات:
ما كان لمنهزم مثلك أن يُحقق انتصارًا، ولكني أرجعت للشعب حريته وكرامته ثم قدته إلى نصر أكيد".
-"ثم تنازلت عن كل شيء في سبيل سلام مهين؛ فطعنت وحدة العرب طعنة قاتلة وقضيت على مصر بالانعزال والغُربة".
فرد السادات:
"لقد ورثت عنك وطنًا يترنح على هاوية الفناء، ولم يمد لي العرب يد عون صادقة، ووضح لي أنهم لا يرغبون في موتنا كما لا يرغبون في قوتنا كي نظل راكعين تحت رجمتهم، فلم أتردد في اتخاذ قراري.."
ويتضح هنا أن محفوظ كان ينتقم من عبد الناصر على لسان السادات أيضًا. أما عن باقي المحكمة فكانت عتابا بسيطا للسادات على الانفتاح وغلاء الأسعار. ثم قدّم محفوظ عدة نصائح لمصر والمصريين، ولكن على لسان حُكامها وهي "عبادة الله الواحد، الحرص على وحدة الوطن، الإيمان بالعلم والعمل، القوة، العدالة الاجتماعية، السلام والحضارة".
وعلّني في ذلك المقال أكون قد قدمت لك رأي محفوظ في اثنين من حُكام مصر لا يقلان أهمية عن حكامها الأوائل، فقد ظلمه الذين نعتوه بالضعف والسكوت عن الحق، ونسوا أن محفوظ وإن كثر كارهوه باقٍ:
ما كلامُ الأنامِ في الشمس إلا .. أنها الشمس ليس فيها كلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.