شعار قسم مدونات

نهر أرغنداب إذ يفصل بين عقيدتين عسكريتين

خارطة قندهار
خارطة قندهار (الجزيرة)

ربما يكون حلف شمال الأطلسي نجح في توحيد صفوفه ضمن "الحرب على الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول في نيويورك وواشنطن، وحشدت دوله قواتها في أفغانستان، لكن التحالف السياسي لم يتحول إلى إستراتيجية تنفذ على الأرض، يضاف إلى ذلك أن معنويات هذه القوات بدأت بالتراجع مع مرور الوقت ولم تكن بالمستوى الذي يمكن أن يحقق لها الانتصار، أما طالبان فيبدو واضحا أن الإيمان بشرعية القتال ضد قوات محتلة مصدر إلهام وصمود مستمر لمسلحيها حتى لو انعدمت المقارنة بالإمكانات المادية لعدوهم.

"صحراوي" اسم لافت ضمن كتيبة فرنسية كانت منتشرة رفي أفغانستان، فهو محارب محنك اكتسب خبرة قتال كبيرة أثناء تطوعه للقتال إلى جانب مسلمي البوسنة ضد العدوان الصربي، وبعد انتهاء الحرب كان عليه أن يرحل عن تلك البلاد تنفيذا للاتفاقيات المبرمة، فاختار اللجوء إلى فرنسا بسبب عدم تمكنه من العودة إلى وطنه الجزائر في ظل الحرب الأهلية، أو ما يطلق عليها الجزائريون العشرية السوداء.

تجند صحراوي في الجيش الفرنسي مقابل حصوله على الجنسية، وانضم إلى كتيبة تعرف بكتيبة المرتزقة، وهي تضم نحو 8 آلاف جندي يُختارون بعناية من أصول غير فرنسية ليشكلوا قوات النخبة في حروب ما وراء البحار لفرنسا.

جدوى الحرب

وعقب معركة حامية الوطيس، خاضتها قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومسلحي طالبان في مديرية أرغنداب في ولاية قندهار صيف عام 2008، عسكرت وحدة من كتيبة المرتزقة الفرنسية على ضفة لنهر أرغنداب، ولا يظهر على الضفة الأخرى سوى غابة كثيفة من بساتين الرمان، اتخذ منها مسلحو طالبان غطاء طبيعيا، وفوق النهر مشروع جسر توقف العمل به بسبب المعارك، فقُسمت المنطقة قسمين أحدهما تحت سيطرة طالبان والآخر تحت سيطرة القوات الأفغانية والأجنبية.

كان قائد وحدة المرتزقة التابعة للقوات الفرنسية ضابطا شيشانيا ذا لحية حمراء كثة، يتوسط عشرات الجنود من مختلف الأعراق والألوان، ومزودون بأحدث المعدات العسكرية، وقد أخذت الدبابات مواقعها حولهم، وتُحلّق فوقهم بين حين وآخر مروحيات تمسح المنطقة من علٍ.

وجد صحراوي بلقائه مع صحفي عربي في جنوب أفغانستان فرصة لتبادل المشاعر بلغته الأم، وقد توسم فيه حيادا ودراية بالواقع الأفغاني بما زاد من فضوله لفهم طبيعة الأفغان والصراع معهم، وكان همه التعرف على نظرة الأفغان للقوات الأجنبية، والعقيدة التي يحملها مسلحو طالبان في مواجهتها.

أما السؤال الملح والصريح الذي كان يؤرّق ذلك الجندي المعتدّ بتجربته الشخصية وتاريخ وطنه الأم، هو: من على الحق نحن أم طالبان؟ ومع أنه يقر بأن الدافع المادي وراء انضمامه لقوات تحارب على غير أرضها، ويُشبِّه تدخل الناتو في أفغانستان بتدخله في حرب البوسنة، فقد كان ينتابه شك في جدوى ودوافع الحرب التي تخوضها فرنسا وقوات الناتو.

وفي المقابل لا يتسرب شك إلى غالبية مسلحي طالبان بعدالة معركتهم، وقناعتهم بأنهم يحاربون دفاعا عن وطنهم ودينهم وعرضهم، وهو سر إصرارهم وارتفاع معنوياتهم رغم ما توضحه نحالة أجسادهم ورثاثة ملابسهم من نقص في التغذية والتجهيز، بينما توفر كل الإمكانات المادية والتموينية للجنود الأجانب.

ويعزز من فهم قناعة مسلحي طالبان بالهدف الذي يحاربون من أجله أن معركة أرغنداب جاءت بعد أسابيع من فرار أكثر من 400 معتقل من طالبان من سجن قندهار المركزي، وتحدثت تقارير الجانبين حينها أن قسما من الفارين عاد لحمل السلاح وشارك في تلك المعركة، وهو ما يؤكد تمسكهم بمواقفهم رغم محنة الأسر والسجن، وانتهت المعركة بادعاء قوات الناتو تنظيف أرغنداب من مسلحي طالبان، لكن ما شاهدناه أن هذه القوات لم تتعد النهر سوى في عمليات محدودة، ويشهد على ذلك مرابطة وحدة المرتزقة الفرنسية خلف النهر.

ولتفسير الخرق الأمني الكبير في أرغنداب لجأ مسؤولو الحكومة الأفغانية، لا سيما والي قندهار أسد الله خالد، الذي أصبح وزيرا للدفاع فيما بعد، إلى اتهام قوات باكستانية نظامية بالقتال نيابة عن طالبان، وهو ادعاء لم يجد قبولا لدى مواطني مدينة قندهار ومديرية أرغنداب، الذين كانوا يتنقلون يوميا بين المدينة والمديرية بحافلات كتب عليها (حافلات الصداقة الأفغانية الباكستانية) قدمتها باكستان هدية للشعب الأفغاني.

الطعن في الظهر

بعيدا عن مزارع الرمان في أرغنداب، التي اتخذ منها مسلحو طالبان غطاء لانتشارهم وتحركاتهم، كادت حادثة تعصف بحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، ودفعت الرئيس الفرنسي وقتذاك نيكولاي ساركوزي إلى التهديد بالانسحاب من أفغانستان، ففي هجوم غير معتاد لمسلحي طالبان على قاعدة عسكرية للناتو بمديرية سروبي شرقي العاصمة كابل قتل عشرات الجنود الفرنسيين (اعترفت باريس بمقتل 10 وإصابة آخرين).

المثير أن سروبي كانت تصنف لدى قوات الناتو بأنها آمنة، ولذلك فإن هناك سرا كبيرا وراء التصعيد الطالباني المفاجئ، لا سيما أنه لم يمض على تسلم القوات الفرنسية للقاعدة سوى بضعة أسابيع، وأنها أعقبت القوات الإيطالية ضمن عمليات التبادل والتعاون بين القوات الحليفة.

أما المفاجأة الكبرى التي حملتها نتائج التحقيق الذي أجراه حلف الناتو في حيثيات الهجوم، فهي أن القوات الإيطالية السابقة لم تُطلع خليفتها الفرنسية على فحوى صفقة سرية مع مسلحي طالبان في المنطقة، تقضي بأن تدفع القوات في القاعدة مبلغا منتظما لهم، لم يكشف عنه، مقابل الامتناع عن مهاجمتها، ونظرا لعدم علم القوات الفرنسية بالاتفاق فإن مسلحي طالبان اعتبروا عدم الدفع إخلالا بالاتفاق، وبادروا بالهجوم.

لم يكن بإمكان القوات الإيطالية الإفصاح للحلفاء عن سر الهدوء في محيط القاعدة، إذ إنه يعدّ تمويلا للأعداء ودعما للإرهاب من وجهة نظر الناتو، وبعد التحقيق ألقى ساركوزي باللائمة على القوات الإيطالية الحليفة في مقتل العدد الكبير من جنوده، واعتبر عدم إبلاغ قواته بالاتفاق المسبق طعنة في الظهر.

لم يمض وقت قليل حتى قتل 4 جنود فرنسيين آخرين على يد جندي أفغاني في ولاية كابيسا شمال كابل، فكانت الحادثة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وأجبرت فرنسا على اتخاذ قرار أحادي بالانسحاب من أفغانستان، والذي أكملته في عام 2013، أي قبل 8 سنوات من الانسحاب الأميركي النهائي.